لم أنتبه لبداية العام الدراسي الجديد الا بعد أن شاهدت جموع الطلاب الاعزاء في الشوارع يتجهون الى مدارسهم , ذلك أنني لم أعد اشتري لابنائي لوازم العام الدراسي كما كنت أفعل يوم أن كان لي ابناء في المدارس , فكلهم غادروا مقاعد الدراسة الى حياتهم العملية , وأصبحوا هم من يهتم لهذه الامور , ولكنني وبصفتي كنت معلما ومديرا لاكثر من ربع قرن من الزمان , ونقيبا للمعلمين في الانروا لثماني سنوات , لا يمكن إلا أن اتفاعل وانفعل مع مشهد المدرسة والطلاب والمعلمين , وإلا أن استشعر قيمة العلم والتعليم والتربية والدراسة والتدريس , فقد عشعشت هذه المفردات في رأسي وقلبي وكياني , ولا يمكن محوها أبدا من ذاكرتي , أو إخراجها من دائرة اهتمامي .
هذا العام ينتابني شعور غامض حول مصير التربية والتعليم في بلدي , , فالتعليم الذي كنا نمارسه سابقا لم يعد هو التعليم الذي نراه اليوم , ومخرجاته ليست كتلك التي كنا نعرفها سابقا , والمعلم النمطي الذي درسنا , وما رسنا دوره لاحقا ليس هو المعلم الذي نراه اليوم , وكذلك الطالب , لم يعد هو الطالب الذي كنا نتعامل معه في السنين الخوالي, تغير الكثير , تغيرت المناهج , حتى كأنك لا تعرف عنها شيئا , وتغيرت المدارس , وبيئتها , ولم يعد التعليم اليوم قيمة عليا في حياة الناس , كانت المعرفة والثقافة وحفظ النصوص هي السائدة وسيدة الموقف , وكنت تحس أن الدراسة تغير من سلوكك وشخصيتك مع ارتقائك الى صفوف أعلى , ولم نعد نلمس ذلك الآن, أصبحت المدارس تروج لنفسها من خلال الدعاية التي تركز على المهارات والنشاطات المرافقة والبيئة المدرسية , هذا في المدارس الخاصة , أما مدارس التعليم العام الحكومي وشبه الحكومي فهي غير معنية للترويج لنفسها بأي شكل من الاشكال , لأن الناس الذين يرسلون أبناءهم اليها مجبرون على ذلك , وقد فقدت هذه المدارس ثقة الناس بها , الا في حالات نادرة جدا , مع أنني غير مقتنع بأن المدارس الخاصة تختلف كثيرا عنها , الا في قدرة الناس على الاختيار بينها في حال كانوا قادرين على ذلك ماديا, والا في بعض المظاهر الشكلية التي يحرص الناس عليها , وأذكر يوم كنت مديرا في القطاع العام , أن الطلاب الذين كانوا يأتوننا من المدارس الخاصة دون المستوى الذي حصلوا عليه في شهاداتهم , وأن عملية خداع قد مورست على ذويهم لإيهامهم أن ابناءهم متقدمين في دراستهم , حرصا على بقائهم في هذه المدارس لغايات مادية بحتة.
حين يبدأ العام الدراسي الجديد , تنتابني رعشة لازمتني وأنا طفل في السنوات الاولى من دراستي , فالمدرسة والمعلم لهما وقع مؤثر في حياة الانسان , كيف لا وهذا المسار يحدد عمليا مستقبل الجيل , ويشكل شخصيته , ويضعه أما مسؤوليات الحياة فيما بعد , فالتربية والتعليم حين يتم الاتقان في مسارهما يمكن أن ينقل البلد والامة الى مواقع أخرى , ويحدث التغيير الحقيقي المطلوب , وحين تشعر أن التربية والتعليم لا يقومان بهذه المهمة المقدسة الكبيرة , فإنك تشعر بالخوف والقلق , وضيعة المسعى , وتشعر أن الهدر في حياتنا قد تجاوز المعقول , ويوشك أن يغرقنا في مستنقع اللامبالاة , وأن المطلوب بهذا الصدد كبير وخطير , ولا يقوم به أحد , تماما كحالنا في كثير من نواحي حياتنا العبثية التي لم يتسلم مقاليدها من قلبه علينا , ويشعر بمشاعرنا , ويهتم لمصيرنا ومستقبلنا , ويكفي أن نعرف أن سر نهضة أكبرالاقتصاديات العالمية هو التخطيط للتعليم والعناية به كما حدث في المانيا.