لوموند: هل كان فولتير أول يساري إسلامي في التاريخ الفرنسي؟

لوموند: هل كان فولتير أول يساري إسلامي في التاريخ الفرنسي؟

فولتير

من واجب حراس الجمهورية الداعين إلى رؤية معينة للعلمانية أن يكشفوا أقنعة أعداء الأمة الذين يبثون المشاكل ويهددون وحدتها، ويبدو أن أول من استورد ونشر هذه الأيديولوجيا الضارة في فرنسا، هو ذلك المسمى فرانسوا ماري أرويه، الذي كان يتستر وراء اسم فولتير.

لكن الفيلسوف الفرنسي فولتير بإشادته لاحقا بالإسلام والإمبراطورية العثمانية، وتقديمه التسامح الإسلامي كنموذج ينبغي أن يلهم الحكام الأوروبيين، يعتبر بطريقة ما مؤسس اليسارية الإسلامية الفرنسية.

بهذه المقدمة، بدأ المؤرخ جون تولان مقالا في صحيفة لوموند Le Monde الفرنسية، قال فيه إن عبارة “اليسار الإسلامي” التي كانت تنقص فرنسا قد أحياها وزير الداخلية جيرالد دارمانان عندما وصف حزب فرنسا الأبية (La France insoumise) ذا التوجه الاشتراكي الديمقراطي بأنه “حزب مرتبط باليسار الإسلامي الذي يقوض الجمهورية”.

وعلق تولان -وهو أستاذ التاريخ بجامعة نانت الفرنسية- بأن هذا التوجه يذكر بأيام رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق مانويل فالس، والعودة مرة أخرى إلى إدانة “اليساريين الإسلاميين”.

عولمة التاريخ

بعد هذه المقدمة، عاد الكاتب إلى الفيلسوف الفرنسي فولتير ليتساءل هل كان إسلاميا يساريا؟ مذكّرا بأنه كان ينتقد نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- إلا أن هدفه الحقيقي لم يكن الإسلام ولا نبيه، بل المتعصبين، كما أوضح في رسالة عام 1742.

وعلق بأن فولتير -من أجل الإفلات من الرقابة- قدم زعيم اليعاقبة في صورة نبي الإسلام (صلى الله عليه وسلم) إلا أنه بعد ذلك غيّر لهجته في رسائله الفلسفية عام 1734، عندما أثنى على الشيوعية الأنجلوسكسونية واقترح استيرادها إلى فرنسا، خاصة أن “اليسار الإسلامي” فيروس ينتقل غالبا عبر الأنجلو ساكسون الذين اكتشف فولتير القرآن عن طريقهم، حسب تعليق المؤرخ تولان.

وقد كتب فولتير لصديقه نيكولاس كلود تيريوت “من كُتّاب القرن الـ 17” أن “هناك شيطانا إنجليزيا قام بترجمة رائعة للقرآن العظيم، قدم لها بعرض عن حياة محمد (صلى الله عليه وسلم) مع تحليل للعقيدة القرآنية مقرونا بقصة ولادة الإسلام وانتشاره، وقد صور المترجم النبي (صلى الله عليه وسلم) على أنه زعيم كاريزمي محبوب ومشرع حكيم صاغ قوانين تناسب شعبه”.

وأشار تولان إلى أن هذه هي صورة نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام التي اعتمدها فولتير في مقالته عن الأخلاق وروح الأمم عام 1757، التي أراد بها كتابة تاريخ عالمي من نوع جديد، يتضاءل فيه مكان أوروبا والعالم المسيحي، ساعيا إلى “عولمة التاريخ”.

وعلق الكاتب بأن سعي فولتير كان نصف نجاح، مشيرا إلى أنه في فصله السادس “في الجزيرة العربية ومحمد”، خصص 10 صفحات لحياة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ووصف كيف كانت بلاده تدافع عن حريتها ضد الفرس وأمراء القسطنطينية.

ويصف فولتير الانقسامات التي قوّضت هذه الإمبراطوريات والصراعات بينها، مما جعلها فريسة سهلة للغزاة، ويروي بإيجاز أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان من أسرة فقيرة، وعمل أجيرا في تجارة امرأة من مكة قبل أن يتزوجها ويعيش معها حتى سن الأربعين، وعندها أظهر “المواهب التي جعلته متفوقا على مواطنيه”، كما يقول الكاتب.

تسامح الإسلام مقابل التعصب المسيحي

ويقول تولان إن فولتير كان معجبا بالنبي (صلى الله عليه وسلم)، وأصبح نصيرا للتسامح الإسلامي الذي يتناقض مع التعصب المسيحي، حيث يقول إن “معلم المسيحية الذي كان يعيش في تواضع وسلام، قد بشر بغفران الخطايا، إلا أن دينه السمح، تحول بفعل عنفنا إلى الدين الأكثر تعصبا والأكثر بربرية”.

ونسب الكاتب لفولتير القول إن كنيسة القرون الوسطى بشّرت بعصمة البابا وأحرقت الزنادقة واستنفرت فرسان المسيحيين لحرب المسلمين، غير أن القادة المسلمين -من أمثال صلاح الدين وابن أخيه الملك الكامل- كانوا في المقابل، يمثلون قمة الرقي والأدب والتسامح.

فولتير: آه! عسى كل شعوب أوروبا أن تحذو حذو الأتراك

ويستعيد جون تولان حوارا في أحد شوارع حلب تخيّله فولتير في أحد كتبه بين راهب يوناني ورجل نزيه، يعبر فيه الرجل عن شكوكه وازدرائه للعهد القديم والجديد، وعندما يؤكد الراهب أن المسيحية دين سلام، يرد الرجل بأن المسيحيين في أوروبا يحتقرون ويقتلون بعضهم بعضا، فيرد الراهب بأنه يكره الاضطهاد، قائلا “الحمد لله أن الأتراك الذين أعيش في ظلهم بسلام لا يضطهدون أحدا”، ويقول الرجل “آه! عسى كل شعوب أوروبا أن تحذو حذو الأتراك”.

وهكذا -يقول المؤرخ- يستخدم فولتير الإسلام لمهاجمة الأسس المسيحية للثقافة الأوروبية، ويشيد بالإسلام والإمبراطورية العثمانية، ويقدم التسامح الإسلامي كنموذج ينبغي أن يلهم الحكام الأوروبيين، ولذلك فهو بطريقة ما، مؤسس اليسارية الإسلامية الفرنسية.

العودة إلى الحوار

ويتساءل المؤرخ ساخرا، الآن وقد حددنا مصدر الشر، ماذا نفعل وكيف نتصرف مع “يساري إسلامي” مات منذ ما يقرب من قرنين ونصف القرن، هل يكون ذلك بمنعه مثلا أو بتحديد المقاطع التي تسيء إلى حساسيتنا الجمهورية، ومنع قراءتها أو بحرق الكتابات التي تسيء إلى مشاعرنا؟

ونبه المؤرخ إلى أن العودة إلى كتابات فولتير في منظورها الصحيح، تظهر أن التلاعب بالمسألة الإسلامية ليس حقيقة جديدة في ثقافتنا، مشيرا إلى أن فولتير والمفكرين الأوروبيين الذين أشادوا بالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- والتسامح الإسلامي، كان الأولى بهم أن ينتقدوا الكنيسة والدولة، لأن ردة فعل مناهضيهم العنيفة جعلتهم يعتبرونهم أعداء للكنيسة والأمة، ونقموا على الإسلام.

وبالعودة إلى نقاشات الحاضر، يتساءل المؤرخ ماذا تعني صفة “إسلامي يساري”، خاصة أنه لا أحد يعرّف نفسه بهذه الصفة، موضحا أنها مجرد إهانة نلقي بها على من يشكك في مزايا سياسات معينة، كالحجاب واستقبال اللاجئين والعديد من المواضيع الأخرى، أو من يستنكر الكراهية تجاه المسلمين الفرنسيين.

وأشار المؤرخ إلى أن وزير الداخلية جيرالد دارمانان أعاد إحياء هذا المصطلح العزيز على مانويل فالس، وهو مصطلح كان المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند قد لاحظ أن السياسيين يستخدمونه لإسكات من لا يتفقون معهم، وذلك لتجنب أي نقاش فكري لا يكونون فيه على قدر المهمة.

ويخلص الكاتب إلى أن الحوار هو ما نحتاجه الآن، في صورة مناظرات حول قضايا التمييز وعدم المساواة الاجتماعية والأمن والعلمانية وأشياء أخرى كثيرة، وذلك بمشاركة واسعة من قبل المواطنين من جميع مناحي الحياة ومن جميع المستويات الاجتماعية، مع احترام أصوات أولئك الذين لا نشاطرهم الرأي.

Share on whatsapp
Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on email
Share on print

رابط مختصر للمادة:

اقرأ أيضاً

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram
Share on email
Email
Share on print
Print

رابط مختصر للمادة: