أسامة أبو ارشيد
Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on email
Email
Share on telegram
Telegram

رابط مختصر للمادة:

يا وَيْحَ مصر تَثْكلُ أبناءها

أسامة أبو ارشيد
Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on email
Share on telegram

رابط مختصر للمادة:

أيام قليلة تفصلنا عن مجزرة جديدة محتملة بحق بعضٍ من خيرة أبناء مصر. لا يقلل من وقع الفاجعة أن تكون هذه المجزرة المحتملة أحكام إعدام جائرة أصدرها “قضاة” في محاكم يزعم النظام أنها مستقلة، ولا أنها لقيت تأييداً من أعلى محكمة “مدنية” مصرية. كلنا يعلم أن السلطة القضائية في مصر، كما هي في أغلب العالمين، العربي والثالث، ليست مستقلة ولا هي مدنية، خصوصاً وأن الشرفاء بين القضاة إما سجناء أو مطاردون أو منبوذون. وإذا أردت أن تموت من كمدٍ فيكفي أن تحمل نفسك على الاستماع إلى جُلِّ قضاة مصر، وهم يلوكون اللغة العربية لوكاً، وينحرونها نحراً، أو حين يتكلم كثيرون منهم كزعماء عصابات. هذا ليس لأن مصر عدمت القضاة الأكفاء والشرفاء، وإنما لأن نظامها لا يريدهم. أيضاً، ليس سراً إن العدل متهم مطارد في مصر، بل هو عدو غير معلن ومطلوب رأسُه للنظام، كما هو الحال مع كل نظام قمعي. وما الشعار الذي يستلهمه القضاء المصري متمثلاً بالآية القرآنية الكريمة: “وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ”، إلا ذرٌ للرماد في العيون، ومحاولةٌ لطمس حقيقةٍ ساطعةٍ كالشمس.

أيدت محكمة النقض، في 14 من شهر يونيو/ حزيران الحالي، أحكاماً بالإعدام ضد 12 شخصاً، بينهم قياديون في جماعة الإخوان المسلمين، في القضية المعروفة إعلامياً بـ”فض اعتصام رابعة”، أبرزهم الطبيب والبرلماني السابق الدكتور محمد البلتاجي، والفقيه الأزهري الدكتور عبد الرحمن البر، والطبيب والوزير السابق الدكتور أسامة ياسين. كما أيدت المحكمة، كذلك، أحكاماً بالسجن على عشرات من المتهمين الآخرين، بما في ذلك المؤبد على الدكتور محمد بديع المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، وعشر سنوات على أسامة نجل الرئيس الراحل الدكتور محمد مرسي، رحمه الله. قرارات الإعدام الصادرة عن محكمة النقض نهائية غير قابلة للطعن. وحسب القانون المصري، فإن أحكام الإعدام لا تنفذ إلا بعد مصادقة رئيس الجمهورية عليها، ولا يملك أحدٌ إلا هو إصدار عفو أو تخفيف العقوبة خلال 14 يوماً من صدور حيثيات الحكم النهائي. بمعنى، أن هذه الأحكام قد تنفذ، لا سمح الله، يوم الاثنين المقبل، في 28 من شهر يونيو/ حزيران الجاري. أما المفارقة المريرة هنا فأن يكون الخصم هو الحكم، وأن يكون الجاني الحقيقي هو من يملك قرار استنقاذ حياة من حُمِّلوا وزر جريمته، زوراً وبهتاناً!

تعود القضية محل الحديث هنا إلى جريمة فضّ قوات الأمن والجيش اعتصامَي ميدانَي رابعة العدوية والنهضة في 14 أغسطس / آب 2013، وراح ضحيتها، حسب تقارير منظمات حقوقية محلية ودولية، مئات القتلى وآلاف الجرحى، تبعهم عشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين. كان المعتصمون حينها مدنيين، نساء ورجالاً، أطفالاً وشيوخاً، يحتجّون سلمياً على الانقلاب العسكري بقيادة وزير الدفاع، حينئذ، عبد الفتاح السيسي، على الرئيس المدني الأول المنتخب ديمقراطياً في تاريخ مصر، محمد مرسي. كان العالم كله، وعلى مدى أسابيع، يتابع البث الحيَّ والمباشر من ميداني الاعتصام. لم يكن هناك عنف، ولم تكن هناك أسلحة، ولم تكن هناك تحضيراتٌ لمواجهاتٍ مع قوات الأمن والجيش التي تحاصرهم. كان قرار الفضّ الدموي والعنيف منعدم الأسباب، وترتب عليه ما توصف اليوم بأكبر وأفظع مجزرة في تاريخ مصر الحديث. ويكفي ممن لا زالوا يمارسون دور الاعتذاريين عن انقلاب عام 2013 أن يراجعوا ما كتب في الصحافة الغربية عنه، وما صدر من كتب توثق تفاصيله، وما جاء في شهادات خجولة لشخصياتٍ كانت في قلب المشهد، كمحمد البرادعي، الذي جاء به العسكر نائباً للرئيس بعد الانقلاب، ولم يستطع أن يدافع عن تلك الجريمة المروّعة بحق أبناء مصر، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، وخلفياتهم الإيديولوجية.

لا تقف حدود المهزلة عند حقيقة أن قائد الانقلاب، المسؤول الأول عن قرار سفك دماء المصريين، بيده هو وحده اليوم أن يُبقي على حياة من جعلهم فداءً له ولنظامه، بل إنها تتعدّى ذلك. يوضح تقرير هام نشرته منظمة هيومن رايتس ووتش الأميركية، عام 2019، كيف أن نظام السيسي، منذ 2013، استخدم، ولا يزال، أحكام الإعدام لتعزيز قبضته على السلطة. ويشير التقرير إلى مفارقة هامة، إذ إن السيسي تخلّى عن ممارساتٍ سابقة لنظام حسني مبارك الديكتاتوري، والتي كانت تسمح بتخفيف بعض أحكام الإعدام أو تعليقها. وعندما شعر السيسي، منذ أواخر عام 2013، بتردّد القضاء المصري في إصدار مئات أحكام الإعدام غير المبرّرة، أوعز إلى الحكومة التي كانت تدير مصر شكلياً تحت وصاية الجيش بإنشاء “محاكم إرهاب” خاصة، وعيّنت لها قضاة منتقين، عملوا بشكلٍ موازٍ للمحاكم العسكرية. لكن، حسب التقرير نفسه، بقيت محكمة النقض، وهي أرفع محاكم الاستئناف في مصر، عقبةً في طريق رغبات السيسي في هذا الصدد، وألغت أحكام إعدام كثيرة ما بين أعوام 2014 – 2016، إلا أن اغتيال النائب العام السابق، هشام بركات، في يونيو/ حزيران 2015، شكّل نقطة تحول، إذ زعم السيسي في جنازة بركات إن “يد العدالة الناجزة مغلولة بالقوانين .. ولكننا لن نصبر على ذلك”. وفعلاً، سارع البرلمان المصري إلى إجراء تعديلات على قانوني الإجراءات الجنائية والطعن أمام محكمة النقض من أجل الالتفاف عليها. وفي أبريل/ نيسان 2017، صادق السيسي على التعديلات، كما صادق، في اليوم نفسه، على تعديلٍ يخوّله صلاحية تعيين رئيس محكمة النقض، وبهذا أحكم قبضته عليها. واليوم، تحتل مصر ترتيب رابع دولة على مستوى العالم من حيث نسبة الإعدامات فيها.

ثمَّ إن السيسي لا يخجل أبداً في مصارحة العالم كله إن الشعب المصري، والشعوب العربية كذلك، لا يستحقون أن يُنظر إليهم، ولا أن يعاملوا وكأنهم على مستوى واحد من “الإنسانية” مع الشعوب الأوروبية. هذا ليس تجنيّاً على الرجل، ولا تقوّلاً عليه. هذا هو بالضبط ما قاله أمام كاميرات التلفزة والصحافة في 25 فبراير/ شباط 2019، في المؤتمر الصحافي بعد انتهاء جلسات القمة المشتركة بين جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي في شرم الشيخ. تَمَيَّزَ يومها السيسي غضباً بسبب انتقاد قادة أوروبيين كيفية إصدار أحكام الإعدام في مصر، فقال مخاطباً إياهم: “أنتم تتحدّثون عن أحكام الإعدام، ونحن نحترم ذلك، ولكن نتمنّى أن لا تفرضوا رأيكم علينا”. وتابع: “هنا، في بلادنا، في منطقتنا العربية، عندما يُقتل شخصٌ في عمل إرهابي، تأتي العائلات لتخبرني إننا نريد انتقاماً لأبنائنا ودمائهم. هذه هي الثقافة الموجودة في هذه المنطقة”. وأضاف: “أنا أتحدث بأقصى قدرٍ من الصدق والثقة، لن تعلّمونا إنسانيتنا؛ لدينا إنسانيتنا الخاصة، ولدينا قيمنا، ولدينا أخلاقنا، وأنتم لديكم إنسانيتكم وأخلاقكم، ونحن نحترم ذلك، لذا احترموا أخلاقنا وقيمنا كما نحترم قيمكم”. أما فلسفة ذلك كله في منطقه الأعوج فأن “الأولوية في الدول الأوروبية هي جلب الرخاء لشعوبها والحفاظ عليها، بينما الأولوية لنا في بلادنا هي حماية دولنا ومنعها من السقوط والانهيار والدمار، كما ترون في العديد من البلدان بالقرب منا”!

لن أخوض في نقاش هذا المنطق السقيم الكاذب حول الإنسانية والقيم والأخلاق، فكلنا يعلم من يقف وراء التخلف الحقيقي لأوطاننا، وكلنا يعرف دور أنظمة الاستبداد في انهيار دولنا، وتحوّلها حمىً مستباحاً لكل طامع. ولكن ما يهمني هنا أن ننتبه إلى عملية نزع الإنسانية عنَّا كشعوب التي يمارسها السيسي دونما خجل ولا وجلٍ، ولا أشك لحظة أن معظم زعماء العرب يشاركونه تفكيره الفاشي هذا، غير أن كثيرين منهم أذكى منه، فلا يقولونها صراحة، في حين يمارسونها عملياً.

باختصار، سواء أكان الموت في مصر عبر سفك الدماء مباشرة بأيدي الأمن والعسكر، أم بحوادث القطارات بسبب الفساد وانعدام الكفاءة وغياب المسؤولية وتقادم البنى التحتية، أم عبر أحكام قضائية جائرة بالإعدام، أم فقراً، أم جوعاً، أم تسمّماً، أم بسبب تفشّي انهيار القطاع الصحي .. إلخ، النتيجة واحدة. إن مصر تَثْكلُ أبناءها بأيديها، حتى وهي على أعتاب أن ينحسر عنها ماء النيل، لا قدّر الله، فلماذا تحترم إثيوبيا مصر، ونظام حكمها نفسه لا يحترمها ولا يحترم شعبها؟ ومن عار الزمان أن لا يبقى من أملٍ، بعد الله، أمام المحكومين بالإعدام الذين بدأنا بقصتهم، إلا تدخّل إدارة جو بايدن، والتي لا تقل نفاقاً عن نظام السيسي، فإذا كان طغاة العرب لا يعتبروننا بشراً، فلماذا يحترمنا الآخرون ويضحّون بمصالحهم من أجل “مبادئ” يزعمونها؟ سيبقى هذا حال مصر والعرب، حتى نحسم صراع الحرية والكرامة، وحتى نرغم كل طاغية على الإقرار بأن “إنسانيتنا” ليست محلّ شك، بل إن “إنسانيتهم” هي المنعدمة.

(العربي الجديد)

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on email
Share on telegram

رابط مختصر للمادة:

Related Posts