حكم الغوغاء يتصدر المشهد في الهند

حكم الغوغاء يتصدر المشهد في الهند

البوصلة – جاء الربيع إلى نيودلهي ليزيل الضباب الدخاني لفصل الشتاء، وتحولت السماء إلى اللون الأزرق مرة أخرى، وتفتحت الأزهار في الحدائق.

لم ير الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، شيئا خلال زيارته القصيرة للعاصمة نيودلهي، ليعطيه فكرة عن دوامة العنف التي كانت تحتدم في أجزاء من العاصمة.

فبحلول ليلة 27 فبراير/ شباط الماضي، قُتل 38 شخصا؛ دخلت عائلاتهم في نفق لا نهاية له من الحزن، وحياتهم الهشة بالأساس تخيم عليها مآسٍ أخرى منذ اندلاع أعمال الشغب الطائفية، والحرق العمد، والقتل.

تلك المآسي تعد الأسوأ التي تشهدها نيودلهي منذ اندلاع أعمال الشغب المناهضة للسيخ (طائفة دينية) عقب اغتيال رئيسة الوزراء إنديرا غاندي في 1984.

وعلى عكس أعمال الشغب التي وقعت في 1984، والتي بدأت على الأقل بسبب الصدمة، والتدفق العفوي للحزن والغضب من مقتل رئيسة الوزراء، لا يوجد شيء عفوي حول دوامة العنف الحالية في دلهي هذه المرة.

فما تشهده المدينة هو هجوم مخطط له على المسلمين الذين كانوا يتظاهرون ضد قانون تعديل الجنسية (CAA) وتوأمه المخيف، السجل الوطني للمواطنين (NRC).

وتهدد هذه الأفعال مجتمعة بحرمان كل مسلم تقريبا من حقوقه وتعرضه للترحيل، إذا لم يستطع تقديم وثائق أو أي دليل مقبول آخر على أنه مواطن هندي.

وشن الهجوم ضد المسلمين بواسطة “كابيل ميشرا”، السياسي الشاب الطموح من حزب “بهاراتيا جاناتا” الحاكم، الذي خسر للتو انتخابات مجلس ولاية دلهي، عن دائرة انتخابية فاز بها قبل خمس سنوات، كمرشح للحزب العلماني (حزب الرجل العادي).

ويسعى ميشرا، الآن إلى تعزيز موقعه داخل حزب بهاراتيا جاناتا، والانتقام من الناخبين المسلمين الذين يعتبرهم مسؤولين عن هزيمته. وكان المحتجون السلميون ضد قانون تعديل الجنسية (CAA) والسجل الوطني للمواطنين (NRC) وغالبيتهم مسلمون وليس جمعيهم، هدفا مناسبا.

وبدأ ميشرا، هجومه في 23 يناير/ كانون الثاني الماضي، وليس 24 يناير، كما تداولت وسائل الإعلام.

وحينئذ، قام بنشر مجموعة من التغريدات التي تؤكد أنه لن يسمح لشاهين باغ آخر، أن يحدث في منطقة دائرته الانتخابية، وحث أتباعه على التجمع بأعداد كبيرة في موقع الاحتجاج في صباح اليوم التالي.

ومنطقة “شاهين باغ” مقر اعتصام نساء مسلمات منذ 15 ديسمبر/كانون الأول الماضي، احتجاجا على قانون الجنسية، في حركة أصبحت بمثابة المحفز الوطني للثورة ضد هذا القانون.

وفي اليوم التالي، وجه ميشر، إنذارا إلى الشرطة بتطهير الطرق في جفراباد، وتشاند باغ ـ وهما منطقتان شمال شرقي دلهي أغلق فيها المتظاهرون الطرق ـ في غضون ثلاثة أيام وإلا واجهوا العواقب.

لكن جيش أتباعه المتجمهر الذي جمعه من خلال تغريداته لم يطق انتظار نهاية مهلة الإنذار وباغت المحتجين.

والأحد، تجمع حشد كبير من الشبان حاملين الحجارة والعصي، في أحد أحياء ماوبور، وبدأوا في رشق المتظاهرين ضد قانون الجنسية بالحجارة.

وأعقب ذلك أول هجوم منسق على المسلمين في غضون ساعات. وبحلول ظهر اليوم، تم قتل 5 أشخاص وإصابة 78 في الاشتباكات.

** أوامر صريحة أو إشارات ضمنية؟

ويبدو أن الشرطة حاولت في اليوم الأول على الأقل، وفي بعض الأماكن، إن لم يكن جميعها، منع العنف، حيث تعرض أحد كبار ضباط الشرطة لإصابات خطيرة في الرأس ونُقل إلى المستشفى.

ولكن منذ ذلك الحين، تراجعت همة الشرطة وصارت غير مبالية بالأوضاع بشكل مثير للدهشة.

وتظهر عشرات التقارير الصحفية ومئات مقاطع الفيديو المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، عناصر للشرطة تقف مكتوفة الأيدي بينما تحرق المتاجر التي يملكها مسلمون، ويتم إطلاق النيران على الشباب المسلمين أو يضربون حتى الموت.

كما لم تكن الشرطة محايدة تماما، إذ تظهرهم عدة مقاطع فيديو وهم يلتقطون الحجارة لإلقائها على الحشود المقابلة لهم، ويحطمون كاميرات مراقبة الشوارع التي وضعتها إدارة مدينة دلهي للحد من الجرائم، لاسيما ضد النساء.

لكن، ما الذي جعل الشرطة تتخلى عن واجبها في الحفاظ على القانون والبدء في خرقه بدلا من ذلك؟

الجواب المباشر هو التوجيهات التي تلقتها، ربما بشكل صريح، ولكن بالتأكيد من خلال إشارات ضمنية، من كبار القادة في الحكومة، بدءا من رئيس الوزراء “ناريندرا مودي” نفسه.

فبينما لم تتردد الشرطة في توجيه اتهامات بإثارة الفتنة ضد عشرات المتظاهرين الذين عارضوا تعديل القانون والسجل الوطني، لم تعتقل كابيل ميشرا؛ لإلقائه خطاب الكراهية وتحريض أتباعه المتجمهرين.

وفى خطاب عام دام 97 دقيقة ألقاه فى دلهى يوم 22 ديسمبر، عندما كانت مظاهرة شاهين باغ فى ذروتها، اتهم مودي، الكونجرس ومنافسيه السياسيين الآخرين بتأجيج المعارضة ضد التشريعين (قانون الجنسية والسجل الوطني)، كما حث “الشعب” على مساعدة الشرطة المحاصرة لإزالة العقبات التي تحول دون تنفيذهما.

وفيما يتعلق بطبيعة العوائق، أو على نحو أدق أمثلة عنها، قال مودي في وقت سابق، “يمكنك التعرف عليهم من خلال الملابس التي يرتدونها”، في إشارة إلى الملابس المميزة للمسلمين.

وفي 22 ديسمبر، قوبل نداء مودي الحماسي، بصرخات من الجمهور تطلب منه الإذن بتنفيذ رغباته.

وبعد 5 أسابيع، بينما كان يلقي خطابا أمام تجمع قبل انتخابات مجلس ولاية دلهي، حث أنوراغ ثاكور، وهو وزير صغير في حكومة مودي، جمهورا مغرقا في الحماسة في دلهي على “قتل جميع الخونة للأمة”.

وفي توصيفه لمن هم “الخونة” قال “إنهم يمتدون في صف طويل من رئيس وزراء باكستان عمران خان، إلى زعيم حزب المؤتمر راهول غاندي، ورئيس وزراء دلهي أرفيند كيجريوال”.

وأضاف أنهم “المسلمون والماركسيون و”العلمانيون الزائفون”، الذين كانوا يلوحون بالعلم الهندي، في وصفه للمحتجين سلميا ضد التعديلات التشريعية المدنية.

ولم يتم اعتقال ثاكور، بل قام مودي، بعد خمسة أيام بمكافأته بمنحه شرف الرد في البرلمان على خطاب الرئيس عشية عيد الجمهورية.

واستمر صدى خطاب الكراهية يسري في حزبه. وفي غضون أيام، أثار مرشحان آخران لحزب بهاراتيا جاناتا في دلهي، الكراهية ضد المسلمين في خطاباتهما قبل الانتخابات، بينما الشرطة لا تفعل شيئا تجاه هذه الممارسات.

وفي 26 فبراير/ شباط الماضي، عندما أحرقت دلهي، أعطت حكومة مودي تأييدا نهائيا لحكم الغوغاء في دلهي.

وأثناء الاستماع إلى التماس من نشطاء الحقوق المدنية، أمهل القاضي إس موراليداران من المحكمة العليا في دلهي، شرطة العاصمة يوما لتسجيل القضايا المرفوعة ضد المشرعين من حزب بهاراتيا جاناتا، الذين ألقوا خطابات كراهية ضد المسلمين.

والساعة 11 من مساء اليوم ذاته، تم نقل القاضي موراليداران إلى محكمة عليا أخرى – محكمة البنجاب وهاريانا – دون أن يُمنح 14 يوما التي تُمنح عادة للقضاة لتسجيل آرائهم بشأن القضايا التي ينظرون فيها قبل نقلهم.

ولم يتول عبء القضايا سوى رئيس المحكمة العليا في دلهي، الذي كان تحركه الأول هو تمديد الوقت الممنوح للحكومة للبت في الإجراء الذي ستتخذه ضد المشرعين (مثيري الكراهية ضد المسلمين) إلى شهر.

لقد وصلت الرسالة إلى الناس: لقد استسلم القضاء الهندي هو الآخر سلطة الحكومة الغاشمة، ولم يعد الركيزة الثالثة للديمقراطية.

حكم الغوغاء قد أتى ليبقى في الهند.

—————————

الأناضول – بريم شانكار جها

** كاتب اقتصادي هندي وصحفي مخضرم، كما عمل في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والبنك الدولي، ومستشار إعلامي لرئيس وزراء الهند الأسبق في بي سينغ.

Share on whatsapp
Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on email
Share on print

رابط مختصر للمادة:

اقرأ أيضاً

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram
Share on email
Email
Share on print
Print

رابط مختصر للمادة: