عثرة الرواية البوليسية جزائرياً

عثرة الرواية البوليسية جزائرياً

الرواية البوليسية ليست وافداً جديداً، على المشهد في الجزائر، بل يعود تاريخها إلى ما يربو على نصف قرن، حين ظهر مطلع السبعينيات كاتب توارى خلف اسم مستعار (يوسف خضر) وأصدر ست روايات بوليسية متتابعة، تلاه كاتب آخر، عبد العزيز عمراني، الذي أصدر في المرحلة ذاتها روايتان، تندرجان في السياق ذاته، لكن بالكاد يذكر الناس هذين الاسمين، كما أن كتبهما لم تعد متاحة، ولم يفكر أي واحد من الناشرين في إعادة طبعها، لأسباب يمكن أن نصفها بالمنطقية، فأولى الروايات البوليسية في الجزائر لم تهتم بالفن بقدر اهتمامها بالأيديولوجيا، اتخذت من حرب 1967 خلفية لها، لم تهمها الرواية بقدر ما شغلتها الرسالة السياسية والنضالية، التي ودت تمريرها، كان يوسف خضر وعبد العزيز عمراني منخرطان في خطاب السلطة الرسمي، سعيا إلى ترويج فكرة على حساب أخرى، هكذا نجد أنفسنا أمام تاريخ طويل من كتابة الرواية البوليسية، لكنه تاريخ متعثر، انطلق انطلاقة خاطئة، وتوجب أن ننتظر سنوات طوال، قبل أن يظهر كتّاب حقيقيون للرواية البوليسية الجزائرية، القاسم المشترك بينهم أنهم من كتّاب المهجر، فلماذا فشلت الرواية البوليسية التي كُتبت في الداخل؟ ونحن نعلم مدى تلهف الناس إليها، بل إن الجزائر تكاد تصير سوقاً رابحة للروايات البوليسية المُستوردة.

قد لا نختلف في القول إن أهم منطقتين تصلنا منهما روايات بوليسية، ويقبل عليها القراء مثل من يقبل على شراء الخبز، هما: الدول الإسكندنافية وأمريكا؟ هل تسألنا لماذا من هذين البقعتين الجغرافيتين بالذات؟ إن الرواية البوليسية، منذ نشأتها نهاية القرن التاسع عشر، لم تكن يوماً مجرد طفرة، أو نتاج تراكم ثقافي، بل هي مُعادل موضوعي للديمقراطية، هي مرآة لما يتمتع به بلد معين من ممارسات ديمقراطية، إن نجاحها والتفاف القراء حولها، ونزعة كتاب إليها، ليس بالدرجة الأولى لغرض تجاري، وعلى الرغم مما تلاقيه الرواية البوليسية من (ازدراء) النقد الأدبي لها، فقد ظلت تطور نفسها، وتحظى بمراتب متقدمة في المقروئية، إنها تحصيل حاصل لما يعيشه كاتب ما من شعور أو امتلاء بالديمقراطية، لأن هذا النوع من الكتابة يُغامر نحو مناطق محرمة، غير متاحة للكاتب العربي، في فضح ممارسات، أو إدانة سلوكيات، أو كشف ملابسات تسيير شؤون بلد أو مدينة بعينها، تجعل الرواية البوليسية من الحقيقة الاجتماعية والسياسية جسداً لقصتها، لا تمانع في إخضاع ما يطلق عليه (الدولة) للمُساءلة.

قد يخيل للبعض ـ من باب نقص الخبرة ـ أن أي رواية تتخذ من محقق بطلاً لها، أو تدرج الشرطة في لعبتها السردية، إنما هي رواية بوليسية، وهو تعريف ساذج لهذا النوع الروائي، فقد نطالع رواية بوليسية، بدون أن نعثر بين صفحاتها على شرطي واحد، الرواية البوليسية هي كل مجازفة فنية وسردية قصد تفكيك تعقيدات مجتمع إنساني بعينه، تشترك كلها في خلق (جريمة) لكن لا يهمنا ـ ونحن بصدد مطالعتها ـ من هو الجاني ومن هو المجني عليه، بقدر ما يهمنا لماذا وقعت الجريمة، هي رواية لا سقف لحريتها، وهو ما لا يمكن أن نتطلع إليه في الجزائر في الوقت الحالي، لأن تنشئة الفرد تنشئة غير سوية، تتكئ على الممنوعات وعلى حثه صرف النظر عن حيوات الآخرين، وعدم الاقتراب مما يجري خلف الستار، لذلك فإن ما يغلب على الرواية الجزائرية ـ في عمومها ـ هو أحادية النظر إلى الواقع، تغليب فكرة وحيدة ومحو غيرها، فضح غير مقصود لحالة الاستبداد التي يعيشها الكاتب في مخيلته، الرواية الجزائرية ليست رواية مشغولة بالبوليفونية وتعدد الآراء، لذلك يتعسر عليها الإحاطة بخيار الكتابة البوليسية.

محاكمات للخيال

في رأيي لم يعد ثلاثي (الجنس، الدين والسياسة) من المحظورات، بل بات من الموضوعات المنتهكة، والتابو الأكبر المستحدث، الذي لم نتخلص منه طوال عقود، هو تابو الحرية، فالكاتب الجزائري مثل نظيره العربي، لم يستطع أن يتقدم خطوة في دفاعه عن حريته، لا نزال نشهد محاكمات للخيال، وفي غياب الحرية نتقبل غياب رواية بوليسية يكتبها جزائريو الداخل، حذر أن تصيبهم لعنة الرقابة وقبلها لعنة الرقابة الذاتية، فالرقابة الذاتية شاعت أكثر مما يلزم، ومن يضطر إلى خندقة نفسه في حدودها، يكتفي بكتابة رمزية، كي لا يضطر إلى مواجهة واقعه وتعقيداته.
سمحت انتفاضة 5 أكتوبر/تشرين الأول 1988 باتساع رؤية كتّاب الرواية البوليسية، في الجزائر، فظهرت على إثرها أسماء جديدة، على غرار العربي أبهري وجمال ديب، والكاتبة زهيرة حوفاني برفاس، التي لا تزال تقريباً الوحيدة التي كتبت رواية بوليسية، كما أتاحت تلك المرحلة ظهور اسم كاتب باسم مستعار (المحقق لوب) الذي صار يوقع أعماله في ما بعد باسم (ياسمينة خضرا) أصدر عام 1997 روايته الأهم «موريتوري» فكانت أول رواية بوليسية جزائرية تصدر في الخارج، كما انتقل للعيش في المهجر، قناعة منه أن الشرط الآخر من شروط كتابة رواية بوليسية، الذي نفتقر إليه، إنما هو شرط الحرية، ينتصب بعده شرط ثالث، يمكن أن نعدله أو نتناقش بشأنه ساعات، هو شرط القراءة، فقد تعود القارئ المحلي في الغالب على روايات بوليسية تأتيه من الخارج، ألف تقبل ما يكتبه آخرون، خصوصا كتابا غربيين، أو ما يكتبه كاتب جزائري في مهجره. سرت قناعة أن القارئ حر في خياراته، ويجب أن نتقبل أذواقه، وهي فكرة خاطئة، بل يجب أيضا توجيه خيارات القراء، والسعي إلى التأثير فيها، فمن حق الكاتب الجزائري أن يُدافع عما يكتب وعما يصدره وأن يسعى إلى كسب القارئ إلى جانبه، لا أن يتركه هائماً منقادًا بما تقترحه عليه الآلة الدعائية المتوحشة، التي تروج لكتاب غربيين في الرواية البوليسية.
حتى الساعة لا تزال شروط نجاح رواية بوليسية محلياً، غير متاحة في الجزائر، والإشكال ليس في عدم قدرة الكاتب على خوض هذا النوع من الكتابة فنياً، بل لأن شروطه الاجتماعية والسياسية والنفسية غير متوافرة، ما هو متوافر اليوم إنما سوق استهلاكية للواردات من آداب أجنبية.

سعيد خطيبي

روائي وصحافي جزائري

Share on whatsapp
Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on email
Share on print

رابط مختصر للمادة:

اقرأ أيضاً

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram
Share on email
Email
Share on print
Print

رابط مختصر للمادة: