أسامة أبو ارشيد
Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on email
Email
Share on telegram
Telegram

رابط مختصر للمادة:

في ضرورة تحرير الدين من “كهنوت الوصاية”

أسامة أبو ارشيد
Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on email
Share on telegram

رابط مختصر للمادة:

لا تنحصر تداعيات جائحة كورونا في الحقول الطبية والاقتصادية والسياسية والاستراتيجية والإنسانية، بل إنها مسَّتْ، إلى حدٍّ كبير، الفضاء الديني، وجعلته ساحة صراع محتدم بين من يعتقدون بوجود مؤامرة على الدين والتدين ومن يرون أن طريقة إنفاذ بعض العبادات لا بد أن تأخذ في الاعتبار محاذير استفحال الوباء بين الناس وتفشّيه. وبالمناسبة، ليس الفضاء الديني الإسلامي وحده هو من يشهد وقائع هذه المعركة الحامية، بل إننا نجدها في اليهودية وبين اليهود، وفي المسيحية وبين المسيحيين، وكثير منها يتعلق بشعائر التعبد وأداء الصلوات الجماعية في الكُنس والكنائس، وهو النقاش الحاد نفسه الذي نشهده بين مسلمين كثيرين بشأن الصلاة في المساجد في الظروف الراهنة.

ولأن الكاتب ليس خبيراً ولا متخصصاً في الشأن الديني، ولأن المقام غير المقام، لن يستغرق في التفاصيل والحيثيات الفرعية ولن يخوض فيها، بقدر ما سيحاول هذا المقال المحدود مساحة أن يقدّم طرحاً إطارياً يتعلق بالفضاء الديني الإسلامي تحديداً. ما يشجعني على ذلك أنني وجدت نفسي، في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، في خضم هذه المعركة على صفحتي على “فيسبوك”، أولاً، لناحية مكانة الحديث النبوي الشريف في التشريع الإسلامي، ومقاربات نقده، منهجياً، سواء لناحية المتن أم السند. وثانياً، لناحية الخلاف بين بعض أهل العلم الشرعي، بتخصصاتهم المختلفة، في مسألة جواز “الاقتداء بالإمام عبر البث المباشر”.

في ما يتعلق بالمسألة الأولى، ثارت زوبعة، قبل أكثر من ثلاثة أسابيع، لم يهدأ غبارها بعد، حول نقطة طرحها الداعية وأستاذ التفسير في الجامعة الأردنية، أحمد نوفل، عبر إحدى الإذاعات الأردنية شكك فيها في جزئية كيفية فرض الصلاة المفروضة في حديث الإسراء والمعراج الوارد في صحيح الإمام البخاري. في لقائه ذاك، رأى نوفل أن تردّد الرسول عليه السلام، جيئة وذهاباً بين السماء السادسة، التي كان فيها موسى عليه السلام، حسب الحديث، وبين “سدرة المنتهى”، لتخفيض الصلاة على المسلمين من خمسين إلى خمسة، يومياً، “خارجة متناً عن الدين وعن المنطق وعن العقل”. وكان منطق نوفل أن خمسين صلاة في اليوم تعني أن المسلم سيقضيه كله بين وضوء وصلاة، وفي هذا حرج على الناس، وتكليف لهم فوق استطاعتهم، وبأنه لا يعقل أن يتنبه نبي الله موسى لذلك، ولا يتنبه له نبي الله محمد. دع عنك أن يفرض الله ذلك ابتداء. وما كاد هذا المقطع المصوّر ينتشر حتى استل أنصار مدرسة الحديث، أو الأثر، سيوفهم، وأطلقوا العنان لألسنتهم، مشككين في دين الرجل وعلمه، وناهشين في عرضه وسمعته، واعتبروا أنه يحاكم الحديث والدين إلى العقل، خصوصا أنه أكّد أن الدين ينبغي أن يكون “منسجماً مع العقل”.

في المسألة الثانية، أصدر أئمة في الولايات المتحدة فتوى، في الأيام القليلة الماضية، خلصوا فيها إلى جواز “الاقتداء بالإمام عبر البث المباشر”. لم تعدم تلك الفتوى سياقاً تأسيسياً واستدلالياً لها، خصوصاً لناحية تكييفها ضرورة وحاجة، إذ لا يعرف كم ستدوم هذه الجائحة، وأن النقاش في هذه المسألة يدخل في سياق القضايا الخلافية. ومع ذلك، اختار كثيرون أن يهاجموا أشخاص المفتين والتشنيع عليهم، لا الرد على الفتوى فحسب.

لا أريد أن أتورّط في ترجيح رأي على رأي، أو الانتصار لموقف على آخر. هذه ليست صنعتي ولا هذا فني. لكن، أظن أن هاتين القضيتين أعادتا تسليط الضوء على مجموعة من الأعطاب البنيوية والمنهجية في الدراسات الشرعية في بعض الكليات الجامعية، العربية والإسلامية. من ذلك أن كثيراً من تلك الكليات تخرّج لنا مقلّدين ومتعصبين لآراء ومذاهب بعينها. قليلون من خرّيجي الكليات الشرعية من يتعبون على أنفسهم، ويتعمّقون في دراستهم، ويتجاوزون عمليات التنميط الذهني والتعصب المذهبي الذي يمارسه عليهم بعض أساتذة، هم أنفسهم متعصبون ونمطيون. بمعنى أننا نتحدّث هنا عن عملية تعليمية تلقينية وَتَسْليمِيَةٍ، ليس فيها استفزاز لآفاق العقل والإبداع والتميز، وبالتالي تُخَرِّجُ لنا نماذج ضحلة علمياً ومعرفياً. ومن ثمَّ، لا تعجب عندما تجد نفسك أمام بعض خرّيجي كليات الشريعة، يتحدثون بلغةٍ ومصطلحاتٍ ومفاهيم لا تمتّ للعصر. ولا تعجب حين تجد بعضهم لا زال يعيش معارك الأشاعرة والمعتزلة والماتريدية والجهمية، ويجسّدون شخصية الفارس المُتَوَهِمِ، دون كيشوت، يحملون سيفاً متهالكاً، ويركبون جواداً هزيلاً، بحثاً عن عدو مُتَخَيَّلٍ، فينتهون يقاتلون طواحين الهواء!

المشكلة هنا أن حالة الوَهْمِ المُنَمَّطَةِ هذه رهيبة ومخيفة، وقد تنتهي بنا إلى نتائج كارثية. لا بد لنا  من مصارحة مع الذات، لقد أدّى منطق الأدلجة هذا، تاريخاً وحاضراً، إلى سفك دماء بحجة الكفر والزندقة والمروق. لقد مارس الإنسان هذه الأساليب حتى قبل اليهودية والمسيحية والإسلام. اختطاف طرف ما “المُقَدَّسِ” وزعمهم تجسيده، وبالتالي إعطاء أنفسهم حق مصادرة تدبر وَتَفَكُّرِ آخرين من أهل العلم في أمور الدين باسمه (أي المُقَدَّسِ)، مسألة خطيرة عانت منها البشرية، باختلاف مللها ونحلها، على مَرِّ تاريخها، وكان منها أمة الإسلام. ولا ينبغي أن نسمح لتلك الفئة التي لا تنتعش إلا في الظلام وعلى حطام الجهل أن تزدهر على حساب العلم والحرية الفكرية والأكاديمية. لقد حرمت البشرية عبر تاريخها المديد من إسهاماتٍ هامةٍ جرّاء ذلك القمع، وذلك الإرهاب، وتلك المصادرة باسم المُقَدَّس.

في الحقبة الإغريقية، قتل الفيلسوف سقراط بتهمة إفساد عقول شباب أثينا. ونصّبت الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى في أوروبا نفسها حكماً على السلطتين، الروحية والزمانية، وبطشت وقتلت كل من خالفها، سواء لناحية الإصلاح الديني أم لناحية المعطيات العلمية. وعلى الرغم من أن المسلمين لم يصلوا إلى ربع معشار ما اقترفته الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا في القرون الوسطى، إلا أن تاريخنا لم يكن منزّهاً من محاكمة الناس بناء على معتقداتهم ومذاهبهم وفلسفاتهم. قتل الأديب والفيلسوف ابن المقفع ضحية لخلاف سياسي، ولكن الأمر تمَّ تغليفه بتهمة الزندقة. وتعرّض فلاسفة وعلماء مبدعون كثيرون من المسلمين في الطب والفلك والرياضيات والأدب.. إلخ، إلى التشويه والبطش، بذرائع كثيرة، كالكفر والزندقة والابتداع، ومنهم ابن سينا، وابن النديم، وابن الهيثم، والفارابي، والجاحظ، وعباس بن فرناس. ولم يسلم علماء وأئمة كبار من ذلك أيضاً، كمالك، وأبي حنيفة، وابن حنبل، والبخاري، وابن تيمية وابن القيم. لم تكن السلطة هي سلاح البطش والترهيب دائماً، بل كان ثمّة سلاح آخر أكثر فتكاً، وهو تحريض العامة والغوغاء على بعض المستهدفين من العلماء، ومنهم الإمام البخاري نفسه!

إذا أردنا أن نؤسّس لنهضة حضارية جديدة، فإن واحداً من الشروط المركزية لتحقيق ذلك هو تأمين مناخاتٍ من الحرية والتفاعل والتلاقح بين الأفكار، وهو ما يتطلب نقضاً لعقلية الإقصاء والإرهاب باسم الدين. لم يُضَيِّقِ الإسلام واسعاً. هو بريء من هذه التهمة، إذ فعل ذلك بعض سفهاء الأحلام، ضحلو العلم. لقد أطلق الإسلام آفاق الإبداع، ودعا إلى التفكّر والتدبر والتأمل، ولم يحجر القرآن على رأي، حتى رأي إبليس نفسه.

“لا ينبغي أن نسمح لتلك الفئة التي لا تنتعش إلا في الظلام وعلى حطام الجهل أن تزدهر على حساب العلم والحرية الفكرية”والإسلامية. آن الأوان لتدريس مواد البحث العلمي ومناهجه في الدراسات الاجتماعية. هذه المناهج ليست نتاجاً “غربياً”، بل هي حصيلة تراكم خبراتي إنساني، أفاد المسلمون فيها وأفادوا منها. آن الأوان لتحرير الدراسات الإسلامية من معارك مذهبية سرمدية مُتَوَهَمَةٌ. آن الأوان لتقديم صياغة جديدة لفقه الاختلاف المشروع. منطق الوصاية والحجْر على تفكير أصحاب المذاهب والمدارس المختلفة “كهنوت” لا يقرّه الإسلام. منطق الإقصاء مرفوض. لقد أنتج الفقه الإسلامي مدارس كثيرة معتبرة ومعتد بها، ولا يُقبل من مدرسةٍ أن تنصّب نفسها حاكمة على غيرها. للأسف، هذا ما تفعله مدرسة الحديث، أو الأثريون اليوم، في مواجهة مدرسة الأصوليين. إن فهم الدين ليس حكراً على مدرسة أو مذهب من دون غيرهما. وآن الأوان أن نحرّر الفضاء الديني، كذلك، من هيمنة السلطة السياسية، وتوظيفها إياه، ولا ينبغي أن يبقى مرجعية ولا شرعية لـ”فقيه سلطان”.

مع تنسّمنا عبق شهر رمضان المبارك، فإننا على موعد مع ركيزة الوحي: “اقرأ”. هذا الدين قام، منذ انطلاقته، على العلم والوعي والتفكر والتأمل والتدبر والاستيعاب وإعمال العقل، لا وأده. ولا ينبغي أن نقبل كهنوتاً يروم إعادة إنتاج دور الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى، وبعثها، وتكرار ممارسات إكليروسها. الفقه، لغةً، يعني الفهم والعلم والفطنة والذكاء. إنه يعني الاستيعاب. ولا يكون أي محروم من تلك الصفات “فقيهاً”. كيف يكون من لا يستوعب معطيات عصره، ولا حيثيات القضية التي يفتي فيها فقيهاً؟ لا يمكن. ما سبق ليس دعوة إلى التمرّد على الدين، بل إن كاتب هذه السطور متدين فكراً وَمَسْلَكاً، في حدود الاستطاعة. إنها دعوة إلى تحرير الدين من أناس يظنون أنفسهم “سدنة المعبد”، وما يعلمون أنهم يمنعون الأوكسجين عن من فيه، وأنهم يحرمون من خارجه من الخير الكثير الذي يختزنه. ارفعوا أيديكم عن ديننا، وعن حرية التفكير والإبداع فيه، لمن امتلك أدوات ذلك، وعرفنا صلاح عمله، ففي هذه الأمة علماء وفقهاء جهابذة، ليس عندنا سبب للطعن في سرائرهم.

(العربي الجديد)

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on email
Share on telegram

رابط مختصر للمادة:

Related Posts