لماذا تقلق فرنسا من الاتفاق “الوشيك” بين مالي و”فاغنر”؟

لماذا تقلق فرنسا من الاتفاق “الوشيك” بين مالي و”فاغنر”؟

عندما سارع الرئيس إيمانويل ماكرون بإدانة الانقلاب في مالي في أغسطس/آب الماضي، ثارت تكهنات بشأن وجود صراع بين فرنسا وروسيا على أراضي الدولة الإفريقية، لكنَّ اتفاقاً وشيكاً مع فاغنر الروسية أخرج الصراع إلى العلن، فماذا حدث؟

مالي واحدة من المستعمرات الفرنسية السابقة في منطقة الساحل الإفريقي وفيها تتمركز قوات فرنسية في إطار عملية “برخان” التي تحارب الجماعات المتطرفة في المنطقة، وأعلن ماكرون مؤخراً عن إنهاء تلك العملية، وسط سلسلة من الانقلابات ليس فقط في مالي بل في تشاد ومؤخراً غينيا أيضاً.

وكانت قصة الانقلاب الأخير في مالي، الذي وقع في أغسطس/آب على يد الكولونيل آسيمي غويتا وأطاح بالرئيس باه نداو، وطريقة تعامل فرنسا ورئيسها مع ذلك الانقلاب، قد أثارت كثيراً من التساؤلات بشأن ما يحدث في كواليس المشهد.

وسبب تلك التساؤلات يرجع بالأساس إلى التناقض الصارخ في موقف باريس؛ إذ كانت مالي قد شهدت انقلاباً عسكرياً في أغسطس/آب 2020، أطاح بالرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا، ورحبت فرنسا بذلك الانقلاب بعد أن انتظر ماكرون بعضاً من الوقت قبل أن يعلق عليه من الأساس.

وتم تنصيب مجلس انتقالي في مالي برئاسة باه نداو وكان الكولونيل غويتا يشغل منصب نائب الرئيس، وواصلت فرنسا دعمها للمجلس الانتقالي حتى وقع انقلاب غويتا الذي أطاح بنداو، ليرد ماكرون سريعاً بإدانة ما حدث ووصفه بأنه “انقلاب داخل الانقلاب”.

فرنسا تفقد النفوذ في مستعمراتها الإفريقية

وكان ذلك التباين موضوعاً لتقرير نشره موقع  The Conversation  الأسترالي، حدد الموالون لباريس في المسؤولين التنفيذيين الذين تم اعتقالهم وإجبارهم على الاستقالة، وبالتحديد الرئيس نداو ورئيس الوزراء مختار باه، بينما تمثلت وجهة النظر التي تميل لروسيا في المجلس العسكري برئاسة الكولونيا غويتا.

وتحمل وجهة النظر الثانية ثقلاً كبيراً بين أولئك الذين ينظرون نظرةً سلبية إلى وجود الجيش الفرنسي في مالي، والذين يحتجون بانتظام على العمليات العسكرية الفرنسية داخل البلاد.

لكن الأمور ظلت مجرد تحليلات وتكهنات، في ظل صمت رسمي من جانب جميع الأطراف، أي فرنسا ومالي وروسيا، كما هو الحال في تشاد وكذلك غينيا، وكلتاهما مستعمرات فرنسية سابقة وشهدتا أيضاً انقلابات عسكرية خلال نفس الفترة تقريباً، فيما وصفته كثير من التحليلات بأنه صراع القوى الكبرى على خيرات القارة السمراء.

وما حدث في غينيا مؤخراً، على سبيل المثال، يمثل حلقة أخرى من حلقات ذلك الصراع، إذ أشارت تحليلات على أن الانقلاب الذي قام به العقيد مامادو دومبايو وأطاح من خلاله بالرئيس ألفا كوندي، الذي كانت علاقته مع باريس قد أصبحت متوترة منذ تعديله الدستور العام الماضي وفوزه في انتخابات رئاسية أبقته في منصبه لفترة ثالثة.

قوات فرنسية في مالي، ويكيميديا

وكانت فرنسا من أوائل الدول التي أدانت انقلاب غينيا قبل عشرة أيام، حيث أصدرت الخارجية الفرنسية بياناً جاء فيه أنها “تدين محاولة الاستيلاء على السلطة بالقوة” في غينيا، وتدعو إلى “الإفراج الفوري وغير المشروط عن الرئيس ألفا كوندي”.

لكن واقع الأمور يشير إلى أن الإدانة الفرنسية مجرد إجراء شكلي، إذ لم تفرض أي عقوبات على الانقلابيين في كوناكري ولم تجمد تعاونها العسكري معهم، مثلما فعلت قبل أشهر في انقلاب مالي الأخير.

فالعقيد دومبايو قائد الانقلاب في غينيا خدم في الجيش الفرنسي طيلة 15 سنة، في الفوج 25 من الفيلق (اللفيف) الأجنبي، حتى عام 2018 حين غادر لتولي قيادة القوات الخاصة في بلاده، وهو متزوج من فرنسية

ورغم استياء ديمبويا الشديد من العنصرية التي كان الرئيس كوندي يتعامل بها مع زملائه الفرنسيين مقارنة بهم، فإنه كان ممتناً للفرنسيين، لأنه تمكن عبرهم من الحصول على الذخيرة والوسائل التي مكنتهم فيما بعد من قيادة انقلاب عسكري ناجح، وهزيمة الحرس الرئاسي، الذي سبق له أن تصدى لمحاولة اغتيال الرئيس في 2011.

فاغنر تظهر في الصورة أخيراً

وأخيرا بدأت ملامح الصورة تتكشف أكثر بشأن حقيقة ما يجري في مستعمرات فرنسا السابقة، وخصوصاً في مالي؛ إذ نشرت رويترز، نقلاً عن سبعة مصادر دبلوماسية وأمنية، الاثنين 13 سبتمبر/أيلول الجاري، تقريراً يقول إن اتفاقاً وشيكاً سيسمح لمرتزقة فاغنر الروس بدخول مالي بشكل رسمي، وهو ما سيوسع نطاق النفوذ الروسي في الشؤون الأمنية لمنطقة غرب إفريقيا وسيثير معارضة من قِبل فرنسا القوة الاستعمارية السابقة بالمنطقة.

وذكرت المصادر أن باريس بدأت بالفعل مسعى دبلوماسياً لمنع المجلس العسكري في مالي من تفعيل الاتفاق الذي سيسمح لمجموعة فاغنر، وهي مجموعة من المتعاقدين العسكريين الروس من القطاع الخاص، بالعمل في مالي.

وقال مصدر أوروبي يتابع شؤون غرب إفريقيا ومصدر أمني في المنطقة إن ألفا على الأقل من المرتزقة قد يشاركون في الأمر. وقال مصدران آخران إنهما يعتقدان أن العدد أقل من ذلك لكنهما لم يقدما تقديراً للعدد.

ليبيا ماكرون بايدن أردوغان
عناصر مرتزقة “فاغنر” الروسية أعدادهم تضاعفت من العشرات إلى الآلاف في ليبيا خلال السنوات الأخيرة/ مواقع روسية

وقالت أربعة مصادر إن مجموعة فاغنر ستحصل على حوالي ستة مليارات فرنك إفريقي (10.8 مليون دولار) شهرياً مقابل خدماتها. وأشار مصدر أمني يعمل في المنطقة إلى أن المرتزقة سيقومون بتدريب جيش مالي وتوفير الحماية لمسؤولين كبار.

ولم يتسنَّ لرويترز التأكد من عدد المرتزقة الذين قد يشاركون ولا مقابل عملهم ولا تحديد الهدف الأساسي للمجلس العسكري الحاكم في مالي من أي اتفاق يسمح بوجودهم. كما لم يتسنَّ لرويترز التواصل مع مجموعة فاغنر للحصول على تعليق.

فرنسا تهدد وتتوعد

ورغم رفض فرنسا التعليق لرويترز على ما أوردته مصادرها، فإن وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان واجه أسئلة بهذا الشأن من لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية الفرنسية الثلاثاء 14 سبتمبر/أيلول، وقال إن “أي اتفاق بين المجلس العسكري الحاكم في مالي ومجموعة “فاغنر” الروسية سيكون “متنافياً” مع بقاء قوة فرنسية في البلاد.

وأضاف لودريان أن “أي تدخل لمجموعة من هذا النوع في مالي سيكون متنافياً مع عمل الشركاء الساحليين والدوليين في مالي”. وقال مصدر فرنسي قريب من الملف لوكالة الأنباء الفرنسية إن “المجلس العسكري الحاكم في مالي يدرس بالفعل إمكان إبرام عقد مع مجموعة فاغنر الروسية لنشر ألف مقاتل روسي من المرتزقة في مالي لتشكيل قواتها المسلّحة”.

وزير الخارجية الفرنسي جون إيف لودريان/رويترز

والموقف نفسه تبنته وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي بقولها إن أي اتفاق بين باماكو ومجموعة فاغنر سيكون مصدر “قلق بالغ” و”مناقضاً” لمواصلة الانخراط العسكري لفرنسا في منطقة الساحل المستمر منذ ثماني سنوات.

وأمام لجنة الدفاع في الجمعية الوطنية الفرنسية قالت الوزيرة: “إذا أبرمت السلطات المالية عقداً مع مجموعة فاغنر، فسيثير ذلك قلقاً بالغاً، وسيكون مناقضاً لكل ما قمنا به على مدى سنوات وكل ما نسعى إلى القيام به دعماً لبلدان منطقة الساحل”.

كما أقرت السلطات المالية نفسها بأنها أجرت محادثات مع المجموعة الروسية لكن شدّدت على أنه “لم يوقّع” أي اتفاق. بينما قال متحدث باسم وزارة الدفاع في مالي لرويترز إن “الرأي العام في مالي يؤيد المزيد من التعاون مع روسيا بالنظر للوضع الأمني الحالي. لكن لم يُتخذ قرار بعد” بشأن طبيعة هذا التعاون.

روسيا والصين نحو “وراثة” النفوذ الفرنسي

فاغنر شركة أمن خاصة روسية تقول تقارير غربية إن رجل الأعمال الروسي يفجيني بريجوزين، المقرب من الرئيس فلاديمير بوتين، هو مؤسسها، وإن كان بريجوزين ينفي أي صلة له بالمجموعة.

ويوجد مرتزقة فاغنر حالياً في سوريا، حيث يقاتلون بجانب قوات النظام السوري برئاسة بشار الأسد، وفي ليبيا، حيث يمثل الجنوب تحديداً حلماً لروسيا، يقاتلون مع ميليشيات خليفة حفتر في الشرق، وفي إفادته أمام البرلمان الفرنسي أمس، شدّد لودريان على “تجاوزات” مرتزقة هذه المجموعة الروسية في سوريا وإفريقيا الوسطى وقال إنهم ارتكبوا “انتهاكات من شتى الأنواع”، معتبراً أن توقيع اتفاق معهم “لا يمكن أن يؤدي إلى أي حل”. وأكد أن الاتفاق معهم في إفريقيا الوسطى “أدى إلى تدهور الوضع الأمني”.

مؤسس فاغنر طباخ بوتين
مؤسس مرتزقة فاغنر إلى جانب بوتين

لكن ما تكشف على الأرض حتى الآن يشير إلى أن موسكو ربما تكون قد حسمت بالفعل معركة النفوذ في مالي لصالحها، إذ رصد تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية زيادة وتيرة التعاون الرسمي بين حكام مالي الحاليين وروسيا، وقام وزير الدفاع في المستعمرة الفرنسية السابقة بزيارة إلى موسكو وحضور تدريبات مشتركة بالدبابات بين الجانبين يوم 4 سبتمبر/أيلول الجاري.

وقالت وزارة الدفاع الروسية إن زيارة ساديو كامارا وزير الدفاع المالي لموسكو شهدت لقاءات مكثفة مع المسؤولين العسكريين الروس ومناقشة عدد من الاتفاقات الأمنية والعسكرية بين الجانبين.

وقال المراسل العسكري للوكالة الفرنسية إن “الروس يحاولون ملء الفراغ في مالي لمواجهة النفوذ السياسي لفرنسا في غرب إفريقيا. ففي جمهورية وسط إفريقيا، تدور بالفعل حرب بالوكالة، حيث تتولى مجموعة فاغنر حماية أمن الرئيس في مواجهة الفرنسيين الساعين للإطاحة به”.

وقالت مصادر دبلوماسية لرويترز إن فرنسا تسعى جاهدة كي لا تخسر نفوذها في مالي بشكل كامل، وتتضمن المساعي الفرنسية الدبلوماسية طلب مساعدة شركاء مثل الولايات المتحدة في إقناع المجلس العسكري في مالي بعدم المضي قدماً في الاتفاق مع فاغنر وإرسال دبلوماسيين كبار إلى موسكو ومالي لإجراء محادثات.

وتقول فرنسا إنها قلقة من أن يقوض وصول مرتزقة روس عمليتها المستمرة منذ عشر سنوات لمكافحة “الإرهاب” والتصدي لمقاتلين لهم صلة بتنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية في منطقة الساحل بغرب إفريقيا في وقت تسعى فيه لتقليص عملية برخان التي يشارك فيها خمسة آلاف جندي بهدف إعادة تشكيل القوة حتى تضم المزيد من الشركاء الأوروبيين.

أما في غينيا، فيبدو أن الانقلاب الأخير بقيادة دومبايو والتخلص من كوندي قد أنقذ باريس -ولو مؤقتاً- على أساس أن كوندي صديق لبكين وكان على وشك تسليم الصين رخص استغلال أحد أكبر مناجم الحديد في العالم، بعد تنازل ملياردير فرنسي-إسرائيلي عن حقوقه فيه إثر فضيحة فساد. والسؤال الآن: هل حسم انقلاب دومبايو الأمر لصالح فرنسا، أم أن سعي الصين لوراثة النفوذ الفرنسي في غينيا لا يزال قائماً؟ والسؤال نفسه ينطبق على مالي وسعي روسيا هناك للأمر نفسه.

عربي بوست

Share on whatsapp
Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on email
Share on print

رابط مختصر للمادة:

اقرأ أيضاً

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram
Share on email
Email
Share on print
Print

رابط مختصر للمادة: