من بحر الروم إلى “بحر الخلفاء”.. السيادة المتغيرة على مياه المتوسط في العصور الوسطى

من بحر الروم إلى “بحر الخلفاء”.. السيادة المتغيرة على مياه المتوسط في العصور الوسطى

رغم أن المسلمين ركبوا البحر في هجرة الحبشة المبكرة وتنبأ النبي عليه الصلاة والسلام في حديث شريف بركوب المسلمين للبحر، فإن الخليفة عمر بن الخطاب كان يفضل سفن الصحراء على سفن البحار، معتبرا أن ماء البحر الواسع حصن طبيعي بينه وبين أعدائه.

ورفض الخليفة الراشدي طلبا من والي الشام آنذاك معاوية بن أبي سفيان ركوب البحر والرد على هجمات البيزنطيين على سواحل الشام، وعزل القائد العسكري العلاء بن الحضرمي لأنه ركب البحر لقتال الفرس، غير أن البحر الأبيض المتوسط أصبح في وقت لاحق ميدان وجبهة الجهاد البحري الأكثر نشاطا لجميع بلدان “الخلافة الإسلامية” المختلفة، بحسب كتاب لكريستوف بيكارد أستاذ تاريخ العصور الوسطى بجامعة باريس.

وظل بيكارد يركز على البحر المتوسط بخلفية متخصصة عبر 13 كتابا على مدار الأعوام العشرين الماضية، ​ويروي في كتابه الذي نشر بالفرنسية تحت عنوان “بحر الخلفاء: البحر الأبيض المتوسط ​​في العالم الإسلامي في العصور الوسطى” مغامرات البحارة المسلمين الذين تنافسوا مع البحارة اليونانيين واللاتينيين للسيطرة على البحر المتوسط منذ القرن السابع الميلادي.

ويرى أنه بحلول الوقت الذي استولت فيه القوى المسيحية على طرق التجارة في القرن 13م، كانت الهوية الإسلامية قد تشكلت خلال المواجهات المتكررة عبر “بحر الخلفاء”، وشهدت سواحله ومياهه المنافسة الأصعب بين العالمين المسيحي والإسلامي، متناولا تبدل تصورات المسلمين عن البحر المتوسط ومستشهدا بموقف الخليفة عمر بن الخطاب ونهيه قادته العسكريين عن ركوب البحر.

ويلاحظ المؤلف أن القانون البحري الإسلامي والقواعد الفقهية والقانونية المتعلقة بحيازة السفن وحطامها تطورت على شواطئ غرب البحر المتوسط ​​الإسلامي -تحديدا في تونس- كونها الموقع الرئيسي للنشاط التجاري البحري.

وأوضح الكتاب أن الاستثمارات التي قامت بها الدولة الإسلامية في القوات البحرية ومنشآت الموانئ، التزاما بالجهاد ودفاعا عن البلاد، قادت إلى التوسع والانتشار، وشرح تقنيات الملاحة وأدواتها ورحلات الحج عن طريق البحر وتناول الوثائق الرسمية للنقل البحري التجاري في عالم البحر الأبيض المتوسط الإسلامي.

السيادة على البحر
يشير بيكارد إلى وقوع معارك بحرية مبكرة منذ سيطرة الخلافة الراشدة على غزة وطول شاطئ بلاد الشام، وتمدد السيادة الإسلامية على مياه البحر حتى زمن تراجع التفوق البحري الإسلامي ​​في القرن 12 مع تحول السيادة على البحر إلى المدن الإيطالية.

ويناقش المؤلف في الفصول الأولى من الكتاب قيام المسلمين بإبعاد البيزنطيين عن الشواطئ المصرية والشرقية للبحر في بلاد الشام، وقال إن الإستراتيجية الأولية تمثلت في منع المسيحيين الأرثوذكس (البيزنطيين) من استعادة الشواطئ التي حصلوا منها على الإمدادات الضرورية.

وانتصر المسلمون على البيزنطيين عام 34 هـجري في معركة ذات الصواري البحرية التي وقعت في البحر المتوسط، وسرعان ما سيطر الأسطول الإسلامي على جزر المتوسط، وأقام عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي قاعدة بحرية في قرطاجنة في وقت لاحق، بينما شنّ معاوية بن أبي سفيان ورجاله هجومهم الأول على قبرص أقرب جزيرة في البحر المتوسط ​​إلى شواطئ بلاد الشام، التي أصبحت بوابة هيمنة المسلمين على البحر الأبيض المتوسط.

وهكذا أصبح المتوسط منطقة جهاد الخلفاء بامتياز بعد أن كان بحر الروم، ونقلت راية هذا الجهاد من خلافة إلى أخرى عبر شرق وغرب البحر الأبيض المتوسط، وتخلل ذلك فترات من سيطرة الحملات الصليبية والمدن الإيطالية على مياه البحر وجزر المتوسط.

ويقول المؤلف إنه رجع للمصادر الأوروبية، لأن المصادر الإسلامية لا تفصل جميع معاركها ومواجهاتها في البحر المتوسط، ​​وتميل بدلا من ذلك إلى رصد الانتصارات الكبرى فقط، بحسب تعبيره.

إسترتيجيات الخلفاء
يتناول القسم الثاني من الكتاب “إسترتيجيات الخلفاء في البحر الأبيض المتوسط” من حقبة لأخرى وطوال ثلاثة قرون من الهيمنة الإسلامية على البحر، بما فيها المعارك والموانئ والقادة والبحارة وأحواض بناء السفن وتحصينات “الرباط البحري”.

ويقدم الكاتب صورة تاريخية مفصلة عن القوى الحاكمة المسلمة في السيطرة على البحر المتوسط، موضحا كيف لم يتمكن المسيحيون من منافسة القوى الإسلامية على طول البحر الأبيض المتوسط ​​حتى ظهور البحرية الإيطالية في وقت لاحق.

ويرى أن الإستراتيجية العسكرية الإسلامية اعتمدت قاعدة أنه لا يمكن الحفاظ على فتوحات السواحل المصرية والشامية من دون تطوير قوة بحرية قادرة على صد الهجمات المضادة لخصومهم البيزنطيين، قبل أن تنتقل الجبهة لجزر المتوسط وأهمها قبرص وكريت ورودوس وصقلية، كما تعرض لمحاولة فتح القسطنطينية عن طريق البحر في زمن العثمانيين.

القدرات البحرية
يشرح الفصل التاسع متابعة العباسيين والأمويين في الأندلس بناء القدرات البحرية، ويناقش دور الأغالبة في شمال أفريقيا والجزء الغربي من البحر المتوسط و”الصحوة البحرية للغرب المسلم” (في الفصل العاشر للكتاب).

ويروي كيف بنى الأغالبة أسطولا بحريا قويا سيطر على صقلية لقرن من الزمان تقريبا، وهيمنوا على جنوب إيطاليا، وبنوا قاعدة لأسطول بحري من الشواطئ الأفريقية لتوفير التعزيزات والحفاظ على السلطة في صقلية.

وشهد القرن التاسع الميلادي أيضا هجمات الفايكنغ على السواحل الإسلامية، مما دفع الأمويين في الأندلس إلى تعزيز دفاعات موانئهم وتطوير قواتهم البحرية، في حين شهد القرن ذاته نموا ملحوظا في حركة الملاحة البحرية بين قرطبة الأندلسية وبلاد المغرب.

التنافس والاقتصاد
يكشف بيكارد في الفصل 11 عن النهاية المذهلة للجهاد الإسلامي في البحر المتوسط عندما تحولت الإستراتيجيات الأموية في الأندلس والفاطمية في شمال أفريقيا إلى الخلافات الداخلية ومحاولة انتزاع الخلافة العباسية، وتم تقسيم البحر بين السيادات البحرية المتصارعة.

كما يناقش بيكارد الآثار الاقتصادية للسيادة الإسلامية على البحر الأبيض المتوسط، وشبكات التجارة الهائلة التي تشكلت بفضل ذهب الصحراء الكبرى الأفريقية وتجارة المحيط الهندي المربحة والازدهار الاقتصادي الكبير الذي أصبحت فيه القاهرة عاصمة للذهب، وكيف سهلت الشبكات البحرية للإمبراطوريات الإسلامية المتنافسة نمو التجارة.

وفي وقت لاحق استفاد الإيطاليون من هذه الشبكات وتشكلت في نهاية المطاف “الثورة التجارية في القرن 12” في أوروبا، بحسب تعبير المؤلف -المرحلة التي تلتها هيمنة أوروبية على البحر- رغم أن دولة الموحدين قادت بحرية إسلامية قوية تصدت للإيطاليين والكتالونيين حتى انقلبت الكفة بعد معركة العقاب الشهيرة التي شكلت نقطة تحول ونهاية للموحدين. (الجزيرة)

Share on whatsapp
Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on email
Share on print

رابط مختصر للمادة:

اقرأ أيضاً

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram
Share on email
Email
Share on print
Print

رابط مختصر للمادة: