يأتي هذا المقال في أدبيات "مالك بن نبي" في (عالم الأفكار) من كتابه مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، مُبيناً أنَّ الاهتمام بـ "الأفكار" كمحددات نفسية للسلوك الفردي، كحوافز و"دوافع" روحية لا يمكن بدونها القيام بعمل جماعي متكامل، وهذا المجتمع لا بد له من (أفكار: رائدة حاضنة، وأفكار: مُوجهة وعاملة ومغيرة، أي لها علاقة بمقاييس النشاط والتطبيق) إلى جانب آخر، فإن هناك أفكار قاتمة وقاتلة، توقف النمو والتنمية في مختلفة مجالاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ فينعكسُ أثرها على النواحي العملية والعلمية.
كما وتقدم أن بين لنا المفكر مالك بن نبي علاقة الأفكار من النواحي التطبيقية، استثماراً وتنمية من خلال ثلاثة مستويات، متدرجة من حيث أن هناك عالم الأشخاص، وعالم الأفكار، وعالم الأشياء، وكل عالم يتعلق بمستوى معين، فنفرق بين:
- 1 المستوى الأخلاقي فيما يتعلق بعالم الأشخاص.
-2 المستوى المنطقي ويتعلق بأفكار الكون والحياة. - 3المستوى التقني وهو كل ما يتعلق بعالم الأشياء.
وقال: مالك بن نبي: (( في حين أن مجتمعنا في المرحلة السابقة على تحضره، كان يواجه نشاطاته البدائية، بحوافز وطرق عملية، تُمثل عالمه الثقافي المتواضع..ومع ذلك وحتى في هذه المرحلة فإن هذا العالم يشتمل على أفكار)):
أولاً: الأفكار الأساسية النموذجية الرائدة، وهي التي تحتضن نشاط المجتمع، بل هي تعدُ مرحلة لمخزونه الأخلاقي: وهذه الأفكار الرائدة، (نماذج) يرثها المجتمع جيلاً بعد جيل ويورثها للذي يليه، إلى جانب أفكار ٍعملية يواجه بها كل جيل ظروفه الخاصة بتاريخه؛ بعد أن يُدخل عليها تعديلاً قل أو كثر، يلائم مسيرته.
ثانياً: الأفكار العملية، وهي التي توجِّه نشاط المجتمع، بل هي تعدُ مرحلة لوسائله التقنية.
فإذا ما انتقل المجتمع إلى المرحلة التالية فاستقل صيرورة حضارة ما، فإن تحوله هذا يستجيب بالضبط؛ لثورة ثقافية تعدل بقليل أو بكثير وسائلهُ التقنية، وفي الغالب يكون التعديل محدوداً، لكنها تقلب بصورة جذرية قاعدته الأخلاقية.
ثالثاً: التغيير والتحول يطرأ على عالم الأشخاص لا على عالم الأشياء.
يذكر مالك بن نبي، بقوله: ((فعلى عتبة حضارة ما، ليس هو عالم الأشياء الذي يتبدل، بل بصورة أساسية عالم الأشخاص. وحتى الوسائل التقنية في هذه المرحلة بالذات لا تتجه نحو الأشياء، وإنما نحو الإنسان باعتبارها تقنية اجتماعية تحدد العلاقات الجديدة داخل المجتمع؛ على أساس ميثاق جديد مُنَزَّل، كالقرآن الكريم، أو موضوع من الأشخاص كدستور وقانون؛ لضمان شبكة العلاقات والتصرفات الجديدة داخل المجتمع، فهذا بمثابة وضع حدود لطاقته الحيوية..وهنالك في (عالم الأفكار) داخل المجتمع مراتب بين الأفكار، كالأفكار التي تغير الإنسان، والأفكار التي تغيّر الأشياء، فالأفكار الأولى تضع قدرة تكيف الطاقة الحيوية على عتبة حضارةٍ، أما الأفكار الثانية، فإنها تُطوِّع المادة لحاجات الحضارة)) .
رابعاً: علاقة الأفكار بمقاييس النشاط:
وتعتمد قدرة الأفكار التي تغير بالأشخاص في درجة التحول ومدته على من يسوس المجتمع من القائد أو القيم التي يطبقها الأشخاص في دفع الظلم؛ دفاعاً عن فكرة عظيمة ودائمة، ليس في الأصل تعتمد على عالم زمنيٌ محض؛ لأن مثل هذا العالم لا يستطيع أن يقدم حوافز تستطيع مساندة مجتمع ناشئ لا يزال في خطواته الأولى.. بل هذا يثبت لنا أن أي مجمتع ناشئ يجب دائماً أن يبحث عن سند له كقائد أو شخص أو أشخاص يمثلونه بالقيم المثلى والعظيمة.
ومن ناحية أخرى، فإنَّ التاريخ يثبت لنا أنَّ عالماً مبنياً في الأصل على القيم العظيمة يميل دائماً إلى نزع صفة العظمة والقداسة عن مبادئه، كلما أوغل المجتمع في المرحلة الثانية من دورة الحضارة، مرحلة امتلاك ناصية المشاكل التقنية والتوسع بالمادة البحتة.. وربما أمكن تفسير هذه الظاهرة بإحدى طريقتين: فهي في منظور الاقتصاديين تقدم، وهي في منظور المؤرخين الفلاسفة إهدار طاقة في منعطف شيخوخة.
وعليه فإن هذان الاتجاهان المتعارضان يليتقيان في حتمية قانون تحول الطاقة، الذي يحكم التاريخ كما يحكم الفيزياء، والذي يقرر بأنه لابد من سقوط طاقة كامنة لإنتاج العمل.
فمثلاً: علماء (الميكانيكا) يسمونها (لحظة) القوة، هي تلك اللحظة التي تكون كافيةً لتمكين يد الرافعة من تحريك مقاومة ما، لإتمام عملٍ ما.
وللفكرة الدافعة (لحظتها) كذلك، أنها اللحظة التي يكون إسقاطها على نشاطنا، هو بالضبط الصورة الكاملة لنموذجها في عالمها الثقافي الأصلي، فقدرتها على الطاقة الحيوية تكون في أوجها في تلك اللحظة على الأخص. فلقد سمحت تلك القدرة لبلال بن رباح –رضي الله عنهُ- الخاضع لتعذيب مُبَرِّحٍ بتحدي الجاهلية بأكملها، وهو يرفع سبابته؛ ليشهد بكلمة التوحيد ” أحد … أحد “
وبالتالي فإن سائر الأفكار (سواء التي تختص بالإطار الأخلاقي أو التي تتحكم بالإطار المادي) لها لحظة إشراق لدى دخولها العالم الثقافي.. لكن الزمن يعمل: في ذاتيتنا، في عقلانيتنا، فَتَعْفو به القسمات البارزة لتلك القوالب، كما تنمحي بالزمن أحرف مطبعة أو مَسْبَكٍ.. وقد نصل إلى أن نستخرج الأشكال من تلك القوالب ولا نرى فيها غير صورة باهتة للنماذج المثالية، فالأفكار الموضوعة قد خانت الأفكار المطبوعة في القوالب الأساسية.
خامـسأً: موت الأفكار وانتقامها.
وحينما يفسد واحد من هذه المستويات الثلاث للفكرة (الأخلاقي أو المنطقي أو التقني) بتأثير أي عاملٍ من العوامل، عندها ينبغي أن نتوقع رؤية نتائج هذا الفساد في أحكام ونشاطات المجتمع، وسلوك أفراده، جرمأً أو تخلفأً.
فساد في علاقات الأفكار فيما بينها (مرتبة المنطق الفلفسة) أو في علاقاتها مع عالم الأشخاص (مرتبة الأيديولوجية – السياسة .. إلخ) أو في علاقاتها مع عالم الأشياء (مرتبة التقنية والاقتصاد … إلخ) لابد أن يُوَلِّد اضطراباً، في الحياة الاجتماعية، وشذوذاً في سلوك الأفراد، خصوصاً عندما تصل القطيعة مع النماذج إلى مداها الأقصى، وتصبح قوالب أفكارنا المطبوعة ممسوحةً في ذاتنا، وتصبح أفكارنا الموضوعة والمصبوبة في تلك القوالب لا شكل لها، ولا تماسك فيها، ولا أهمية لها.
فهذا المقصود من موت الأفكار، تاركة العقول فارغةً وحتى اللغات تستسلم للعجز، ويقع المجتمع في الطفولة، فالطفل دون أفكار يعبر بطريقة بدائية بالحركة أو بالصوت، لتظهر هنا الحركة التي تكمل الجملة الناقصة؛ لأنَّ صاحبها لا يستطيع أن يكملها. فحين لا توجد الأفكار لا توجد الكلمات.
فمثلاً لقد أوضح هذه الحقيقة (بوالو boileau) الناقد الكبير في كتابه (الفن الشعريL’art poetique)..(ما نفهمه جيداً نعبر عنه بوضوح ….. وتأتي الكلمات لتقوله بسهولة ) فعدم التماسك تبدو علاماته حينما تنعدم الأفكار، وحينئذٍ يأتي الصوت؛ ليعلو كما يحلّ محل حجة افتقدت.
والخلاصة:
أولاً: عندما يسيطر التشويش وانعدام التماسك على عالم الأفكار تظهر علاماتهما في أبسط الأعمال، خاصة عند عدم التماسك في العلاقات المنطقية، يجب أن نتوقع سائر أنواع اللبس في العقول التي لا تستطيع- في ميدان السياسة مثلاً- أن تميز بين الأسباب والمسبَّبات. وهذا ما أراد التأكيد عليه مالك بن نبي من أنَّ المجتمع الإسلامي لما طرح مسألة الاستعمار طرحها وحدها، وأهمل القابلية للاستعمار: أي التركيز على العقول، تنميةً وتوعيةً ونبذ كل الأفكار المسمومة والتيارات الهدامة.
ثانياً: إن مالك بن نبي مهتمًا بـ”الأفكار” كعالم وكمحددات نفسية للسلوك الفردي، و”دوافع” روحية لا يمكن القيام بعمل جماعي دونها، إن المعنى الاجرائي للأفكار، هو الذي يعطي له نفس المعنى الذي تغطيه الكلمتين (الدوافع، الحوافز).
ثالثاً: إن علماء الثقافة المعاصرين أدركوا الحاجة إلى بُعد روحي في الدوافع التي تحرك أفراد المجتمع، وتحدد أفعالهم، والحوافز التي تحفزهم على الاستمرار في العمل، فالأفكار هي التي تحفز المجموعات الاجتماعية، وتعطي معنى لحياتهم، وبل هي سبيل لإهامهم قواعدهم القانونية، بحيث تكون تلك القواعد، متوافقة مع تلكم الأفكار ، لكي تنصب بالنهاية محققة للأهداف النوعية ذات النتائج الحقيقية والملموسة.
رابعاً: منظور مالك بن نبي، فإن الأفكار الرائدة والمحافظة في حد ذاتها كيانات مستقلة، تتمتع بالقدرة على التأثير، وحتى على تغيير مسار الحياة البشرية للأفضل، لأنها حاجات بشرية لا تختلف عن الحاجة للطعام والشراب والدواء.
خامساً: تمتلك الأفكار خاصية القدرة على إحداث تأثيرات ملموسة على الإنسان وعلى حياته، فالأفكار والعواطف والابتكارات تعمل على أساسها، من جهة أخرى فإن البيئة الثقافية لها تأثير على الدماغ، والعقول من طريقة التفكير السليم، القابل للغير بمرونة، وضمن الثوابت الأصولية، والاستراتيجيات الحيوية المنضبطة، للسير قدماً، وبخطاً، ثابتة ومحسوبة النتائج، انخراطاا بين الاندماج بالعمل الجماعي لا فؤاد المجتمع وكذلك تطبيق التشاركية العالمية، لتبادل الخبرات والتجارب واستثمار الافكار النوعية، استفادة تنموية سليمة ومتماسكة.
والله الموفق لا ربّ غيره.
المراجع والملحوظات،
ما تقدم من كلام، هو مستوحى بمنهج (الاستقراء والتحليل) من كتاب المفكر الجزائري “مالك بن نبي” (ت: 1393هـ): (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) إشراف وتقديم: المحامي عمر مسقاوي، دار الفكر المعاصر- بيروت،2002م، ص57-67. وهو امتداد أيضاً لكتابه مشكلة الثقافة، دار الفكر- دمشق، ط4، 1984م. وله كتاب: (شروط النهضة).
(مقال: نجيب بصيلة، عالم الأفكار عند مالك بن نبي، 3/2/2022م، مرصد ومدونات عمران، https://omran.org/ar).