قال الخبير في شؤون الإعلام والاتصال حسام شاكر إن حذف شركة “ميتا” الأمريكية (المالكة لمنصات فيسبوك وإنستغرام وثريد) التعازي في اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية يعد “إعداما رقميا” للمحتوى الفلسطيني، داعيا للضغط عليها حتى توقف قمعها، بحسب مقابلة نشرتها الأناضول وأجراها الزميل ليث الجنيدي.
والأربعاء، اتهمت حماس وإيران تل أبيب باغتيال هنية (62 عاما) عبر قصف مقر إقامته خلال زيارته طهران، وبينما تلتزم إسرائيل الصمت، ألمح رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو إلى مسؤولية بلاده.
وعقب ذلك شكى كثيرون عبر منصات التواصل من حذف منصات ميتا تعازيهم في اغتيال هنية ودعاءهم له بالرحمة، بناء على ما تزعمه المنصة أن هكذا مشاركات تعد “خطيرة”.
وبعد حذف المنشورات، تشارك المنصات مع أصحابها رسالة “يبدو أنك قمت بمشاركة رموز أو محتوى يعبر عن مدح أو دعم لأشخاص ومنظمات نعرفها بأنها خطيرة، أو تابعتها”.
واللافت في هذه الرسالة أن هذه المنصات تستند في هذا القمع الرقمي إلى “مركزية وفوقية” تتعلق بمعايير هي من تضعها فقط، دون أي مراعاة لمبادئ حرية التعبير والقيم والأعراف الإنسانية المتنوعة.
وبدعم أمريكي، تشن إسرائيل منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 حربا على قطاع غزة، أسفرت عن نحو 131 ألف قتيل وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد عن 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة أودت بحياة عشرات الأطفال.
– العملاق ميتا
واعتبر شاكر في مقابلة مع الأناضول أن حذف المنشورات المتعلقة بغزة والتعزية بهنية “خطوات لا يبدو مفاجئا الإقدام عليها، فهي منسجمة مع اتجاه تصاعدي عام لتقييد المحتوى الداعم لفلسطين في مواقع التواصل”.
وأضاف “من الواضح أن ميتا تتبنى معايير منحازة لرواية الاحتلال الإسرائيلي، فهي تصنف وفرة متزايدة من المفردات والمضامين الفلسطينية ضمن قائمة المحظورات، وتفرض قيودا مشددة على الحسابات والصفحات؛ بما يؤدي إلى تقييد الوصول إليها أو إغلاقها”.
واستدرك: “مهم ملاحظة أن هذه التدابير، التي تستخدم خوارزميات متحيزة، تمس بالمحتوى الشبكي العالمي المتعلق بفلسطين وليس بالمحتوى الفلسطيني وحده”.
وتابع: “وقد كشف سلوك ميتا بعد اغتيال هنية عن هذا المنحى، والنتيجة حرمان العالم، من الجماهير والشخصيات والقادة السياسيين، من إظهار مواقف رافضة للاغتيال”.
وأردف: “هذا قمع سافر لحرية التعبير، لكنه لا يجري بأسلوب مقص الرقيب الصدئ أو التدخل الأمني النمطي، بل بأداة غير مرئية هي الخوارزميات، ومن سلطة مركزية التحكم لا يراها أحد”.
وزاد: “بوسعنا أن نقول إن سلوك ميتا يتواطأ مع احتلال استعماري مزمن في فلسطين ومع حرب إبادة وحشية جارية في قطاع غزة منذ عشرة شهور، وهي تفرض معاييرها المتحيزة على العالم بأسره”.
– إعدام رقمي
وحسب شاكر، فإن “مواقع التواصل، التي تقوم بالتوسع في هدم البيوت الافتراضية للمواطنين الشبكيين أو الإعدام الرقمي بحقهم أو عزلهم عن الفضاء الشبكي العام، لا تتصرف بكل هذه المركزية والفوقية إلا لأنها تدرك سطوة قدراتها الاحتكارية، وأنه لا مفر تقريبا لشعوب العالم الشبكي من منصاتها، وأن فرص الاعتراض على هذه السطوة ومقاومة سلوكها القمعي محدودة للغاية أو منعدمة”.
ورأى أنه “من المفارقات أن مواقع التواصل ظلت منصات للاعتراض على الحكومات، دون أن تتوفر فرص اعتراض فعالة على سلطاتها الشبكية ذاتها”.
ووصف قيام تركيا الجمعة بحجب منصة إنستغرام (دون أسباب معلنة)، التابعة لإمبراطورية “ميتا”، بأنه “مثال على خيارات السلوك الاعتراضي العكسي الذي قد تواجهه مواقع التواصل”.
واستدرك: “لكن الإمبراطوريات الشبكية تدرك أن هذا الخيار ليس موجعا لها وحسب، بل للجمهور الشبكي أيضا الذي قد يشعر أنه تضرر من هذا الحجب؛ ما يجعل هذا الخيار مؤقتا على الأرجح”.
ولفت إلى أن “مواقع التواصل ذات المنشأ الأمريكي تتصرف عمليا كما لو كانت فوق سلطة الدول والحكومات، وهي في الواقع كذلك”.
واستشهد بأن “مسؤولي المنصات الشبكية قرروا يوما معاقبة سيد البيت الأبيض السابق دونالد ترمب (عبر حظر حساباته) وفعلوها دون أن يوقفهم أحد، وكانت هذه لحظة مفصلية تؤكد من له الكلمة، وإن فُعِل هذا مع المستر برزيدينت، رئيس الولايات المتحدة، فما سيُفعل مع غيره؟!”.
وآنذاك اتخذت منصات شبكية إجراءات بحق ترامب تراوحت بين تجميد حسابته لفترة مؤقتة أو إغلاقها تماما؛ بداعي نشر معلومات مضلّلة وخطاب كراهية وتحريض على العنف.
– ماسك وإكس
وبسؤاله إن كان إيلون ماسك، مالك منصة “إكس”، يسير على خطى مارك زوكربيرج، مالك “ميتا”، لا سيما مع ظهور تحول لافت في موقفه نحو دعم إسرائيل وترامب، أجاب شاكر: “من الواضح أن ماسك اختار نهجا مختلفا بعض الشيء عن وكربيرغ”.
ورأى أن “حرب الإبادة في غزة كشفت ذلك بوضوح، رغم أن منصة إكس أو تويتر سابقا ضالعة في سياسات تقييد المحتوى أيضا، لكن بجرعة مخففة نسبيا”.
وتابع: “ماسك يدرك أن مساحة الحرية النسبية هذه تمنح إكس ميزة تنافسية عن منصات ميتا، لكن مهم ملاحظة أن منحى التقييد والحظر لا يبدو ملحوظا بالدرجة ذاتها داخل أوساط المركزية الغربية، فالمتضررون منه في الأساس (هم) مَن لا ينسجمون مع خطابات معتمدة في هذه المركزية”.
وشدد على أن “ما يفاقم المعضلة أن هذه المنصات تمثل ظاهرة احتكارية جسيمة، وذات تمركز موضعي غربي رغم أنها قرية كوكبية كما يُقال، وتفتقر إلى إمكانية المساءلة والمحاسبة في النطاق العالمي”.
واستطرد: “ويمسك بقرارها (المنصات) أفراد قلائل، وهم فاعلون فوق مستوى الدول والحكومات، وهي حالة رأسمالية شبكية متضخمة وغير مسبوقة أن أحدهم يتصرف كمَن يقرر مصير الكوكب ولديه من الإمكانات ما يغريه بذلك”.
– صعود تيك توك
وفيما يتعلق بالصعود السريع لـ”تيك توك” ومنحه مساحة أوسع من الحرية بخصوص فلسطين، وتداعيات ذلك على سوق التواصل الاجتماعي العالمي، قال شاكر: “لا شك أن حالة تيك توك مثيرة جدا للاهتمام؛ لأن هذه المنصة، المتصدرة عالميا بالنسبة لفئات وشرائح معينة عبر العالم بما في ذلك الدول الغربية، صينية المنشأ”.
وتابع: “وللملاحظة فإنّ الأوروبيين واليابانيين مثلا، كما غيرهم، لم ينجحوا في المنافسة الشبكية التي هي اليوم أمريكية- صينية تقريبا”.
ورأى أن “صعود تيك توك وضعها في مواجهة آلية التحجيم، التي تحركت في مواجهتها، وقد رأينا عمل هذه الآلية بقسوة بالغة مع عملاق الهواتف والاتصالات الصيني هواوي”.
واعتبر أن موقع “تيك توك يمثل تحديا واضحا للهيمنة الشبكية الأمريكية، ووقع جرّه للمساءلة في الولايات المتحدة بذريعة أمان بيانات الأمريكيين، لكن هاجس المزاحمة الصينية هو المحرك على الأرجح، علاوة على قدرة منصات غير غربية المنشأ على كسر هيمنة المركزية الغربية على محتوى الفضاء الشبكي، وستبقى فلسطين تعبيرا واضحا عن ذلك”.
وزاد بأن “هذه مطاردة قط وفأر نمطية، لكن تيك توك أو غيرها تُبدي حرصا على تفادي العقوبات عليها بمزيد من التماهي مع أولويات المركزية الغريبة بشأن المحتوى، علاوة على أن لوبي الاحتلال الإسرائيلي يحاول التأثير على قرارات المنصات الشبكية عموما، ولهذا نجد أن تيك توك تقوم بين الحين والآخر بإدراج قيود ذات صلة”.
تباينات وحلول
شاكر قال إنه “خلال شهور عشرة من حرب الإبادة اتضح أن اتجاهات المحتوى في الفضاء الشبكي ومنصات التواصل تباينت بوضوح عن ما قدمته الصناعة الإخبارية والإعلامية المركزية ذات المنشأ الغربي”.
وبيَّن أنه “يمكن ملاحظة ذلك بشكل أوضح في مضامين تيك توك وإكس وتلغرام، وستكون المؤشرات أكثر وضوحا لو رُفعت القيود عن حرية التعبير والوصول في عموم المنصات”.
وتابع: “هذه الحقيقة قرعت النواقيس لدى بعض النخب السياسية في الدول الغربية دفعا نحو مقاربات جديدة في التقييد والخطر والحجب، لكنهم يدركون أن حجب منصة ذات رواج هائل في أوساط الشباب والناشئة يبقى خيارا مزعجا لهذه الأوساط، وقد تكون له كلفة ارتدادية”.
وأردف: “في النهاية تحرص النخب السياسية ذاتها على تدشين حسابات لها في تيك توك أيضا لضمان الوصول إلى مخزون تصويتي هائل قابع في هذه المنصة”.
وبالنسبة للحلول التي يمكن أن يلجأ إليها أصحاب القضايا العادلة مثل غزة للتغلب على هذا الحصار الإعلامي، قال شاكر: “للأسف نستطيع القول إن العالم يواجه في هذا الشأن معضلة مستعصية”.
واعتبر: “لهذا سيكون السؤال: كيف ينبغي التعامل مع هذه المعضلة؟ لا غنى عن مزيج من الخيارات المتضافرة، أهمها الضغط اللاذع على الإمبراطوريات الشبكية المتسلطة التي لا ترغب بالاستماع لجماهير الكوكب الرقمي”.
وأوضح أنه “وجدت في السابق حملات اعتراض ميدانية وشبكية على فيسبوك مثلا، لكن لم تحرك ساكنا لأن أباطرة الزمن الشبكي ظلوا قادرين على التعايش معها”.
وأضاف: “مهم في الأساس إعادة تعريف مفهوم العلاقة من مستخدم أو زبائن إلى مواطن شبكي أو جماهير وشعوب شبكية، ومن حسابات وصفحات إلى حياة رقمية وبيوت افتراضية، ومن إجراءات بمقتضى معايير إلى سلوك قمعي وتقويض لحرية التعبير، أو هكذا تقريبا”.
ورأى أنه “مهم فهم سلوك السلطوية الشبكية التي تمارس دورها بصفة ناعمة وغير مرئية، ورموزها كما يتجلى في حالة زوكربرغ بوضوح يمنحون انطباعا بأنهم مجرد أفراد في سن الشباب يعيشون مثل غيرهم”.
واستطرد: “مهم تطوير مفهوم عالمي بشأن حالة التركيز والاختلال القائمة، ولحسن الحظ فإن النخب الغربية المتنفذة تقدم من خلال خطابها وسلوكها ضد تيك توك خيارات ملهمة في مواجهة منصات شبكية أمريكية المنشأ بالأحرى”.
وأعرب شاكر عن اعتقاده بأن “ثمة مخزون تفاعلي محتمل لم يُستثمر بعد، هو الجنوب العالمي الذي تتركز فيه معظم البشرية ولا يُمنح فرصة حضور في قرار المنصّات الشبكية إلا بشكل زائف ومضلل”.
ومضى قائلا: “ويمكن اعتبار غزة وفلسطين عنوانا في الاحتكام الأخلاقي في هذا الشأن، على أساس مدى التواطؤ مع الإبادة الوحشية ومع سلطة احتلال استعماري استيطاني عسكري يتسلّح بالخوارزميات أيضا”.
وزاد بأنها “معركة واجبة من أجل فضاء الرأي والتعبير في العالم، معركة مفروضة ولا بد من خوضها، مع ملاحظة أن سطوة التحكم تمتد إلى عقدة مهمة هي إمكانية حجب أي تطبيق من المستودعات الشبكية التي هي أمريكية بطبيعة الحال، هذه حالة غير منطقية”.
و”ما أحوجنا إلى ما يشبه تقرير ماكبرايد الشهير الذي كلّفت به اليونيسكو فريق شو ماكبرايد في السبعينيات لبيان معضلة الاختلال الإخباري والإعلامي في العالم وقتها، والذي دعا إلى نظام إعلامي عالمي جديد. واقع الفضاء الشبكي العالمي يفرض استدراكات جادة بلا ريب، وهذه لن تأتي من الدول الغربية غالبا”، يختم شاكر.
(الأناضول)