تتطلع شعوبنا ليوم تملك فيه أمرها وتعود لها فيه كرامتها وتصفو فيه مشاربها، وقد مدت لنا المقاومة يدها لتخرجنا من وحل السنين العجاف التي سعى الساعون في منع تسمينها فظلت السنين عجافا وظلوا يديرون شأن الشعوب فيها بما جوّع الذيب وأفنى الغنم، فغابت الوسطية وحضر شيء واحد هو مصلحة الأغيار ومضرّة الشعوب المغلوبة على أمرها، حتى مد رجال الساحة الأحرار يدهم إليها، فما كان من شانئيها إلا أن أحكموا إغلاق السبل بينها وبين سبيل الخلاص، حتى ضاق الخناق عليها بسيف قوانين أعدت مسبقا بعناية، تعددت عناوينها واتحدت مقاصدها التي تختصر بأن يكون للشعوب نصف فم يأكل -لأنه حتى الأكل ليس فيه بحبوحة- ولا يكون لها فم ينطق أبدا، فالكلام محظور وللحيطان آذان، والخطيب المسموع مقموع، وردود الأفعال الرسمية على الأحداث اليومية محسوبة بعناية أفقدتها فاعليتها على الأرض.
قلنا منذ كنا وكانوا إنّ حشر القط في غرفة ضيقة يحوّله إلى نمر، وإنّ من سعى إلى حشره يجب أن يحاسب على قلة حكمته، وقلنا إن ذاكرة الأمة الجمعية لا تفوّت ولا تفرّط، وإن من ذاكرة الأمة سعي الساعين للانتفاض ضد حادثة شارلي إبدو، سعيا لم تره الأمة في الانتصار لدم الشهيد هنية القائد السياسي المناضل الذي أَهرَق دمه عدونا وعدوّ كل قيمة إنسانية، ولن ينسى عقل الأمة الجمعي حضور المحبين للسلام جنازة بيريز اليهودي المغتصب صاحب التاريخ الإرهابي الأسوَد بوفود رفيعة المستوى، وغيابهم عن جنازة الشهيد إسماعيل هنية، بقرارهم وقرار من نصحهم بعدم الحضور، وأظن أن هذه المصارحة لا تُغضِب ولا تُعتِب، لأن خاطرنا الذي كسروه أغلى بكثير من خاطر خصمنا الذي جبروه بحضورهم هنالك وغيابهم هناك، فنحن أهلهم وهم في الأصل منا وفينا، والعتاب جلاء للصدور، والموقف برمّته لا يحتمل تأويلا ولا إعذارا.
سادتنا، يا أولياء أمورنا، يا أبناء العروبة التي تعرف معنى الجوار، لقد طلب جواركم حرّ أدرتم له ظهوركم، فكشفتم ظهره حتى أنشب عدوه مخالبه في صدره ونحره وظهره.
ولعمر الحقّ آن لكم أن ترفعوا أيديكم عن أفواهنا فإن ميتة “هنية” المشرِّفة باتت أحب إلينا من حياتنا المعنَّفة، وإن بني قومنا الذين ضاقوا بحرقتنا على مروءتنا المضيعة باتوا يقتلوننا في اليوم ألف مرة كلما حشرجت الكلمات في حناجرنا فلم تجد لها مكانا تستعلن فيه لأن الثقافة التي سوّدتموها فينا هي ثقافة: صهٍ فللحيطان آذان، تُرى إن استشفعنا بعروبة المطعم بن عدي بن نوفل الذي أجار النبي محمدا صلى الله عليه وسلم مرجِعَه من الطائف ليدخل مكة، فهل نجد شفاعة تعطينا عطوة نبلغ بها عزّنا وعزّكم ويُرفع بها الضيم عن كل صاحب رأي حبَسه قانون ستُسأل عنه أمام الله مجالس الأمة التي أقرّته؟!
(البوصلة)