“الشيخ جراح”.. مقطوعة من الجمال خارج المألوف

“الشيخ جراح”.. مقطوعة من الجمال خارج المألوف

ما الذي يمنع أن ينبت السوسن والدحنون واللوتس والأقحوان على بيوت حي الشيخ جراح العتيقة في القدس!  

يكفي أن تلامس العصافير نوافذ البيوت المغطاة بسياج من حديد، أو أن يغفو طير الحمام على شرفة أحد منازلها المشبع برائحة البساطة والأصالة ونفحات من رائحة المسجد الأقصى الطرية الندية ورائحة البارود.  

تلك هي الحكاية، حكاية حي الشيخ جراح، هي حكاية فلسطين كلها وجرحها الأخضر الذي يواصل النزيف منذ مائة عام هي عمر الصراع، كما لو كان قد فتح قبل قليل.  

الحكاية بدأت كمؤامرة دولية حاكت ونسجت خيوطها بمهارة فنان حاذق، بريطانيا القوى العظمى آنذاك ومهدت لقيام دولة الاحتلال بالقوة وبالسياسة، وبصمت وبمشاركة ورضا حكومات عربية، صنعتها القوة ذاتها (بريطانيا) ضمن السياق ذاته، وبينهما وقع الشعب العربي الفلسطيني وحيدا في مواجهة قدره، وآلة الحرب المدعومة بقوة الانتداب البريطاني، ومنح، رفعا للعتب، بنادق صدئة دون ذخائر، برفقة مجاهدين عرب هبوا من شتى البقاع للدفاع عن فلسطين وعروبتها.   

تلك هي حكاية فلسطين مع التهجير واللجوء وبنادق العدو وآليته وخناجر الأخوة الأعداء ورصاص وحجارة المقاومة.  

يؤكد العديد من المؤرخين أن عملية التهجير القسري للفلسطينيين لم تكن وليدة الصدفة ولحظتها، فقد جرت بشكل مبرمج ومخطط له بهدف “تطهير” فلسطين من سكانها العرب، ورافقت عملية التهجير حملات مكثفة من العنف والإرهاب والمجازر، والتي شكلت أحد الأسباب الرئيسية لهجرة عرب فلسطين قراهم ومدنهم بعد أن تركتهم الجيوش العربية مجردين من الأسلحة والأمل.  

أدوات تنفيذ الخطة كانت العصابات الإرهابية الصهيونية المسلحة، وأشهر هذه العصابات، شتيرن والأرغون والهاغاناه وبلماح التي شكلت فيما بعد نواة الجيش الإسرائيلي.  

وبلغ مجموع الشهداء الذين حصر جزء منهم منذ عام 1937 وحتى عام اليوم نحو 15 ألف شهيد، ارتقوا في نحو 120 مجزرة بعد أن مسحت أكثر من 500 قرية فلسطينية عن الوجود.  

وسط هذه الحكاية يقفز مشهد حي الشيخ جراح في القدس الذي يعاني سكانه منذ سنوات من هجمات المستوطنين الذين تسميهم بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية “زعران التلال”، وبدعم مباشر من جيش الاحتلال، من أجل تهجيرهم والسيطرة على منازلهم، بزعم امتلاكهم للمنطقة، رغم أن السكان حصلوا على المساكن منذ ما قبل الاحتلال، وبموجب اتفاقية مع الحكومة الأردنية ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” منذ الخمسينيات.  

ويستولي مستوطنون يهود بدعم من المحاكم الإسرائيلية على منازل في الشيخ جراح بدعوى أن عائلات يهودية عاشت هناك خلال حرب عام 1948 عند قيام دولة الاحتلال.   

وتسعى الجمعيات اليهودية المطالبة إلى إخلاء منازل 58 عائلة فلسطينية، كما أن خطر الإخلاء يتهدد وبشكل عام نحو 500 فلسطيني.  

واستمد الحي اسمه من الأمير حسام الدين بن شرف الدين عيسى الجراح، طبيب القائد صلاح الدين الأيوبي الذي تحول إلى رمز للأجيال العربية المتعاقبة منذ نحو 900 عاما بعد تحريره القدس. 

ويقع الحي في الجانب الشرقي من البلدة القديمة في مدينة القدس خارج السور، وتمتاز بيوته بهندستها الرائعة وصالوناتها الفاخرة، وأيضا الشبابيك المزخرفة ذات الطابع الشرقي، والأسطح المزينة بالقرميد، والشرفات المطلة على البساتين والحي. وتحاول سلطات الاحتلال إخفاء المظاهر المبهرة في الأحياء المقدسية وتدميرها، كما يجري في الجزء السفلي في الشيخ جراح.   

وكان الأردن قد أقام في حي الشيخ جراح مساكن لإيواء الفلسطينيين الذين هُجِّروا عام 1948 ولديه عقود إيجار تثبت ذلك. وبحسب وثائق نشرتها وزارة الخارجية الأردنية، فإن الوثائق تخص 28 عائلة في حي الشيخ جراح هُجِّرت بسبب حرب عام 1948.   

قانونيون يدعون إلى التوجه بقضية الشيخ جراح إلى المحكمة الجنائية الدولية التي وقع الأردن على ميثاقها عام 1998 وكان إحدى الدول المؤسسة لها، لمقاضاة الاحتلال وقياداته، والقضاة الذين ارتكاب جريمة حرب مكررة للمرة الثانية بحق أهالي حي الشيخ جراح.  

ورغم المقاومة السليمة التي يبديها سكان حي الشيخ جراح ومعهم باقي الفلسطينيين، إلا أن الصوت العربي الرسمي كان ساكنا كسكون وهدوء أهل القبور، وكان صوت الزعيم السابق لحزب العمال البريطاني جيرمي كوربين، وعضو الكونغرس الأمريكي ماري نيومان، أكثر شجاعة ووضحا من أصوات العاصم والجامعة العربية التي تغفو في نوم عميق لا يعكر صفوه إلا صوت رصاص جيش الاحتلال وصراخ المستوطنين الذين جاؤوا لسرقة المنازل بسحب ما قاله مستوطن لسيدة فلسطينية واجهته ببطولة وشجاعة.  

ويبدو حي الشيخ جراح مقطوعة موسيقية خارج المألوف، إذ لا تقل مساحة قطع الأرض للبناء في الحي عن 800 متر مربع للبيت الواحد، ولم يزد علو البيوت عن طابقين، ومساحة البيوت لا تتعدى 200 عن مساحة الأرض. أما باقي المساحة فقد خصصت للجنائن المحيطة بالبيت أو “الحاكورة”، المزروعة بالورود والأشجار المثمرة، والمظهر الراقي هذا لا يتعدى وجود بوابة فاخرة عريضة للبيت والحديقة.  

وهذا يجعل المكان صورة مصغرة عن باقي فلسطين التي لا تزال تعيش النكبة المستمرة منذ 73 عاما. 

السبيل – علي سعادة

Share on whatsapp
Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on email
Share on print

رابط مختصر للمادة:

اقرأ أيضاً

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram
Share on email
Email
Share on print
Print

رابط مختصر للمادة: