باحث إسرائيلي بارز: تل أبيب في مصيدة “حماس” الإستراتيجية

باحث إسرائيلي بارز: تل أبيب في مصيدة “حماس” الإستراتيجية

يتواصل الجدل بين مركبات حكومة الاحتلال، بعدما وجهت كتلة “قوة يهودية” برئاسة إيتمار بن غفير اتهامات لها بأن ردها على صواريخ غزة كانت رداً خفيفاً خجولاً، معلنة أنها ستقوم، احتجاجاً على ذلك وعلى عدم دعوة وزير الأمن القومي (بن غفير) لاجتماع تقييم أمني، بالتغيّب عن الكنيست، وعدم المشاركة في التصويت على قرارات ومشاريع قوانين.

 في المقابل ردت أوساط في “الليكود” بالقول إنه من غير المعقول العمل بهذه الطريقة وبالتهديد بالانسحاب من الحكومة. بيد أن أوساطاً في المعارضة، وبعض الجهات الإعلامية العبرية، تعتبر أن التراشق داخل الحكومة مصطنع، وفيه يخاطب كل طرف جمهور ناخبيه من أجل إرضائه.

بين هذا وذاك، وفي الجوهر، يمتنع رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو المجرّب في هذه المرحلة عن التصعيد، لإدراكه أولاً أن هناك حدوداً للقوة، وأن استخدامها بشكل أوسع ضد قطاع غزة من شأنه أن يدفع نحو تصعيد أمني يكرر ما حدث في مايو/أيار 2021، وهو ما يعرف بلحمة الساحات. هذا علاوة على الخوف من أن الحرب ستكون مكلفة لإسرائيل أيضاً، وأن شرعيتها في العالم ليست كما يجب في ظل استشهاد الأسير خضر عدنان وهو في أيدي الاحتلال.

في الأثناء تواصل جهات إسرائيلية التحذير من فقدان رؤية إستراتيجية لدى إسرائيل في تعاملها مع القضية الفلسطينية، ومع قطاع غزة على وجه الخصوص. ويحذّر الباحث في قسم الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب الدكتور ميخائيل ميليشتاين من أن “حماس” تبدو اليوم كلاعب شطرنج مركّب، في الوقت الذي تبدو فيه إسرائيل كلاعب “سكواش” منشغل بالرد على الكرات التي تُطلق في اتجاهه وفي خطوات تكتيكية.

“حماس” الرابح الأكبر

ويقول ميليشتاين إنه كان من المفترض أن تبشرنا نهاية شهر رمضان وفترة الأعياد بانخفاض التوتر الأمني الذي كان سائداً خلال الأسابيع الأخيرة، ولكن عملياً- كما انعكس في التصعيد الحالي- لا يزال التوتر الحالي مستمراً، وفي إطاره يبرُز الدور المركزي الذي تقوم به “حماس” لتأجيج الأمور، والدفع بخطوات عنيفة ضد إسرائيل. ويرى أن نظرة واسعة إلى السنوات الماضية الأخيرة تظهر مساراً إستراتيجياً، يحاول أعداء إسرائيل في إطاره القيام بإنجازات إستراتيجية بسبب انشغالها بالأزمة الداخلية التي لا تنتهي؛ إذ تبدو حركة “حماس” المحلل الأسرع والأكثر فاعلية للواقع، وتغدو الرابح الأكبر منه.

 ويقول ميليشتاين، في مقال نشره موقع القناة 12 العبرية، إن شهر رمضان الأخير كان أحد أشهر رمضان في السنوات الثلاث الأخيرة التي استغلّتها “حماس” جيداً منذ سنة 2021 بهدف إلحاق الضرر بإسرائيل، ومضاعفة قوتها الجماهيرية والعسكرية، بالإضافة إلى فرض قواعد اللعبة وتنفيذ المبادئ الأيديولوجية للتنظيم، وعلى رأسها المقاومة. لافتاً إلى أن هذا كلّه يحدث من دون أن تدفع “حماس” ثمناً كبيراً على شكل معركة صعبة مع إسرائيل. ويقول ميليشتاين، وهو ضابط رفيع في الاستخبارات العسكرية سابقاً، إنه خلال حملة “حراس الأسوار” (سيف القدس)، بادرت “حماس” إلى إطلاق الصواريخ من غزة عقب التوتر في القدس، وفي الوقت نفسه، نجحت الحركة في تحريض المجتمع العربي في إسرائيل (من دون أن يكون مخططاً له). وبعد عام من ذلك، قرّرت “حماس”- بعد أن حصلت على “تسهيلات” مدنية واسعة ومهمة بالنسبة لها- أن تُبقي على غزة خارج المواجهة، لكنها في المقابل ساهمت في تحريض جبهات القدس والضفة والمجتمع العربي في إسرائيل. ويقول أيضاً إنه في هذه السنة، افتتحت “حماس” جبهة جديدة من جنوب لبنان، وهذا بالإضافة إلى جهود دفع “الإرهاب” والتحريض في الضفة الغربية، والسماح بإطلاق صواريخ متقطّعة من غزة، كما قرّرت المشاركة في إطلاق النار عقب استشهاد الناشط في “الجهاد الإسلامي” خضر عدنان.

معركة متعددة الأبعاد

 ويستنتج ميليشتاين أن “حماس” تُدير معركة متعددة الأبعاد ضد إسرائيل، الموجودة في أزمة داخلية متصاعدة، وتُدار على يد حكومات عمرها قصير، ولا تستطيع صياغة إستراتيجيا بعيدة المدى، لذلك تُدير الصراع بصورة تكتيكية بالأساس. ويرى أنه في صُلب السياسة الإسرائيلية، هُناك طموح للمحافظة على الهدوء في الجبهات المتعددة، ولقتال كلّ واحدة من أذرع “حماس” منفردة، من دون التعامل مع التحدي التنظيمي الذي يفرضه التنظيم.

نقاش حاد بشأن التفاهمات في غزة

ويرى الباحث الإسرائيلي ميليشتاين أن التفاهمات في غزة موجودة في صُلب المصيدة الإستراتيجية التي تعيشها إسرائيل، ففي إطارها، يتم منح تسهيلات مدنية، وعلى رأسها خروج العمال، في مقابل هدوء، وبفضله، تتعاظم قوة “حماس”، وذلك في الوقت نفسه الذي تدفع فيه الحركة بعمليات ضد إسرائيل في جبهات غير غزة.

ويضيف: “لقد عاش القطاع حالة هدوء غير مسبوقة حتى يوم أمس الأول، لكن في الوقت ذاته، يتم تصدير تصعيد غير مسبوق إلى الضفة والجبهة الشمالية من القطاع. تتحرك “حماس” استناداً إلى تقديرات تبدو صحيحة، وبحسبها، فإن إسرائيل لن تضع محدِدات على “التسهيلات” المدنية تجاه غزة، على الرغم من الاستفزازات المستمرة الصادرة عنها. وبهذه الطريقة تطبّق “حماس” مفهوم “التمايز”، وهو المصطلح الذي بلورتْه إسرائيل من أجل التعامل مع الحركة”.

ويرى ميليشتاين أنه بسبب الأزمة الداخلية تستصعب إسرائيل صوغ إستراتيجيا منظمة ضد “حماس”، والأصعب من ذلك الاعتراف بأن السياسة المتّبعة، خلال الأعوام الماضية، تتضمّن كثيراً من التحديات والفجوات الحادة. ويقول إن هذه الفجوات تنكشف بين الحين والآخر حين تقرّر “حماس” تحدّي إسرائيل، لكن يتم تغليفها أكثر من مرة بتفسيرات، فحواها أن قيادات “حماس” فقدت علاقتها بالواقع، أو منشغلة بخلافات داخلية، أو أنها تتبنى نهجاً مستقلاً، كما قيل بشأن سلوك “حماس” إزاء “حزب الله” بعد إطلاق القذائف من لبنان.

مخاطر النقاش الداخلي

ويحذّر ميليشتاين من أن الصراع ضد “حماس” أيضاً، كقضايا كثيرة أُخرى، بات ضحية النقاش الداخلي المحتدم في إسرائيل، الذي يمنع إيجاد تحليل إستراتيجي واضح، ويضع كلّ حدث تلقائياً في إطار الإنجاز أو الفشل للمعسكرات الإسرائيلية المتصارعة. ويقول إن النظرة الواعية تشير إلى أنه لا يوجد اختلاف حقيقي في الواقع الأمني الذي شهدناه خلال حكم الحكومات السابقة كافة، كما أنه لا يوجد اختلاف حقيقي في السياسة التي تبنّتها هذه الحكومات، بل هي تعكس استمرارية. ويتابع: “لم تكن “حماس” في وضعية ردع أكبر خلال رمضان الماضي، ولم يكن رمضان الماضي أكثر هدوءاً من الحالي، كما يدّعي رؤساء الحكومة السابقون، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحكومة الحالية، وما سبقها قبل صيف 2021″.

ويقول أيضاً إن الحقيقة بالنسبة إلى “حماس” تختلف عن الرواية الإسرائيلية؛ فـ “حماس” أقوى في سنة 2023 منها قبل عدّة أعوام، فقد سمحت التفاهمات للتنظيم بأن يؤسس سيطرته على غزة، وعودة أبو مازن إلى هناك غير منطقية الآن. وبسبب الضعف الذي تعيشه السلطة الفلسطينية، وفقدانها السيطرة على مواقع متعددة في الضفة الغربية، تبدو “حماس” تنظيماً متماسكاً، وملتزماً بمبادئه، وموجوداً مع الطرف الصحيح في الصراعات الجيوسياسية الإقليمية، وعلى رأسها إيران التي ارتفعت قوّتها في مقابل قوة الولايات المتحدة وحلفائها التي ضعفت. لافتاً إلى أن هذا كلّه يجري في الوقت الذي يقود فيه التنظيمَ الثنائيّ: يحيى السنوار وصالح العاروري، اللذان لديهما الخبرة العسكرية الوفيرة، والمعرفة العميقة بإسرائيل (منذ وجودهما في السجن)، والمكانة الداخلية الثابتة، وهو ما لا تتمتع به القيادات القديمة، كإسماعيل هنية أو خالد مشعل.

التهديد المركزي: طموح “حماس” بـ”احتلال” الضفة

ويكشف ميليشتاين أنه من الصعب إقناع صنّاع القرار في إسرائيل بوضع الأزمة الداخلية جانباً والتعامل مع التحديات الخارجية المتصاعدة كالنووي الإيراني، لكن يجب كشف الواقع بصورة حادة، وإجراء حوار بشأنه. ويضيف: “في الوقت الذي تعيش فيه إسرائيل أزمة حادة بشأن “الإصلاحات القضائية”، تتعزّز قوة “حماس” ومكانتها في النظام السياسي الفلسطيني، وتنظر إلى الضفة الغربية وإلى كيفية تمكّنها من السيطرة عليها في “يوم ما بعد” أبو مازن”.

وفي الخلاصة يرى ميليشتاين أنه يتوجب على إسرائيل أن تتعامل مع “حماس” بصورة منظّمة؛ أولاً، يجب إعادة بحث التفاهمات في غزة وفحص مدى صلابتها. ويضيف: “لا يجب وقف التسهيلات الاقتصادية مرة واحدة، بل فرْض قيد عليها بسبب استفزازات “حماس” المستمرة، وخصوصاً إطلاق القذائف والدفع قدماً بالـ “إرهاب” في الضفة الغربية”. كما يرى أنه مستقبلاً، يجب فحص الإعلان القائل “ما كان لن يكون”، الذي سُمع بعد حملة “حارس الأسوار”، حين قيل إن كلّ “تسهيل” مدني لغزة سيكون مشروطاً بموضوع الأسرى والمختطَفين.

جبهة واحدة

وفي المقابل، على إسرائيل، برأيه، أن تفتح أعينها جيداً على خطوات “حماس” في الضفة الغربية، فبالإضافة إلى محاولة التنظيم وتقوية مكانته في المنطقة وزعزعة مكانة السلطة الفلسطينية، فإن الحركة تطمح للقيام بانقلاب إستراتيجي، بـ “طرق سلمية” كما يبدو، وعلى رأسها انتخابات أو مصالحة وطنية، وهو ما سيسمح لها بالتمركز في الحيّز الجماهيري والحكم. منبهاً إلى انهيار التقديرات التي تشير إلى أن الجلوس على كرسي الحكم سيدفع التنظيم الأيديولوجي إلى مزيد من الاعتدال بعد سيطرته على غزة، مرجحاً أنه في حال حدث الأمر نفسه في الضفة الغربية، فإن “حماس” ستحصل على موارد كثيرة لتحقيق طموحاتها، ولن تتحول إلى طرف “معتدل” ومستعد لتسوية مع إسرائيل.

ويختتم بالقول إن الاستمرار في “إخماد النار”، والاستمتاع بالهدوء المؤقت كإنجاز إستراتيجي، يمكن أن يدفع إسرائيل في المستقبل غير البعيد إلى أن تجد نفسها أمام جبهة تقف على رأسها جهة تعتبر الصراع المستمر ضد إسرائيل حتى إبادتها هو الهدف الأسمى.

Share on whatsapp
Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on email
Share on print

رابط مختصر للمادة:

اقرأ أيضاً

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram
Share on email
Email
Share on print
Print

رابط مختصر للمادة: