جنان المحيط الهادي.. كيف حوّلت الاستكشافات الغربية جزر أوقيانوسيا لجحيم؟

جنان المحيط الهادي.. كيف حوّلت الاستكشافات الغربية جزر أوقيانوسيا لجحيم؟

تماثيل المواي الصخرية الغامضة في جزيرة الفصح أو القيامة التابعة لتشيلي في المحيط الهادي

في أي نقاش يجري عن بداية اتصال الأوروبيين بسكان جزر بولينيزيا (أكثر من ألف جزيرة مبعثرة في المحيط الهادي وموزعة بين بلدان مختلفة)، يذهب التفكير حتما إلى بحارة مثل البريطاني جيمس كوك الذي ساهم في اكتشاف الساحل الشرقي لأستراليا وجزر هاواي ونيوزلندا بالنسبة للأوروبيين.

ومن شواطئ جزيرة القيامة النائية إلى الغابات المطيرة الكثيفة لبابوا غينيا الجديدة، تعد جزر المحيط الهادي موطنًا لبعض أكثر السكان تنوعًا ثقافيا على هذا الكوكب، وتحتضن المنطقة مجموعة استثنائية من الأشكال الفنية، من الزخارف الرقيقة إلى الزوارق وبيوت الاجتماعات المذهلة. فقد كان هؤلاء السكان مبهرين منذ الرحلات الاستكشافية للكابتن كوك التي بدأ أولاها قبل 250 عامًا في عام 1768، وألهموا العديد من الفنانين الأوروبيين.

ومن هذا المدخل، اختار فرانسوا رينار في مجلة لونوفيل أوبسرفاتور الفرنسية عرض كتاب “أوقيانوسيا” للمؤرخ من أصل أسترالي نيكولاس توماس، الذي يعتبر أحد أعظم المتخصصين في العالم في تاريخ المحيط الهادي، ويستخدم المصطلح للإشارة لأستراليا والجزر القريبة منها وأرخبيل الملايو وجزر المحيط الهادي مثل ميلانيزيا، ومايكرونيزيا، وبولنيزيا.

حسب رينار، يحدثنا هذا الكتاب عن الفترة الممتدة من الاتصالات الأولى بين الأوروبيين وسكان جزر المحيط الهندي في الثلث الأخير من القرن 18 حتى نهاية القرن التالي، عندما تم تقسيم هذه المنطقة بأكملها بشكل نهائي بين القوى الاستعمارية.

وقال الكاتب إن هذا الكتاب رائع لسببين: لموضوعه الذي يعكس التحول السريع لعالم انهارت كل قواعده الثقافية والدينية خلال عقود قليلة، وهو يحاول أن يعيد بناء نفسه على قواعد أخرى يفرضها عليه هؤلاء القادمون الجدد الذين هبطوا على أرضه من قواربهم الكبيرة، وأيضا لطريقة الكاتب في عرضه بحيث ابتعد عن السرد السياسي العسكري التقليدي في كتب التاريخ، واختار بدلا عنه مبدأ “التطعيم” مثل تطعيم الخشب بمادة أخرى.

وبذلك رسم الكاتب صورة عامة يمكن أن تقرأ مثل قصص المغامرات، حيث أعاد بناء الماضي من خلال سرد عشرات المصائر الفردية التي يستخرجها في سياق بحثه من السجلات البحرية وصحافة ذلك الزمن وتقارير المحاكم والقصص المهملة في المكتبات.

ممشطو الشاطئ
في مسرح المحيط الواسع، ما أكثر أبطال هذه المأساة الكبيرة التي يحدثنا عنها توماس، حيث اكتشفت معظم جزر المحيط الهادي في سبعينيات القرن الثامن عشر من قبل المستكشفين الأوروبيين، من أمثال كوك وبوغانفيل أو حتى البريطاني صامويل واليس، الذي يقال إنه أول ملاح غربي وصل تاهيتي (أكبر جزر بولينيسيا الفرنسية) عن طريق الصدفة.

وما إن مر عقدان أو ثلاثة -كما يقول الكاتب- حتى هبط على الشواطئ لأول مرة خليط من المغامرين وشذاذ الآفاق، قذفت بهم قوارب الصيد حينا، والسفن التجارية والعسكرية التي تجوب هذه المياه أحيانا أخرى، فهؤلاء هم ممشطو الشاطئ من الفارين والمغامرين من أصل أوروبي أو آسيوي أو أفريقي ممن التقطتهم السفن في أحد توقفاتها هنا أو هناك.

استقر هؤلاء في الجزر للزواج من سكانها أحيانا، ولمحاولة إقامة تجارة صغيرة أحيانا أخرى، أو ربما لتأجير بنادقهم لبعض الزعماء المحليين في حروبهم على زعماء آخرين، كما يرى الكاتب.

وهكذا تشكلت الروابط الأولى بين عالمين -كما يقول الكاتب- فكان ممشطو الشاطئ هؤلاء مفيدين كوسطاء للموجة الثانية من الوافدين من المبشرين، الذين أثار وصف كوك أو بوغانفيل للبولينيزيين بأنهم مثل “المتوحشين الجيدين”، وتحدث عن “رخصهم الجنسي”، وشهيتهم التبشيرية “لإنقاذ هؤلاء التعساء من الشيطان”.

مهمات تبشيرية
ومنذ 1790م تم إنشاء جمعية لندن التبشيرية، وسرعان ما أرسلت فرقا من النجارين أو الخبازين السابقين إلى بحار الجنوب بعد أن حوّلتهم إلى صيادي أرواح، إلا أن مهمتهم لم تكن سهلة، حيث بنوا أول مزار للقديس جون وليامز (1796-1839) الذي قتل في فانواتو على الشاطئ من قبل أولئك الذين ما زالوا يسمونهم “المتوحشين”.

لكن مهمة وليام هاريس الذي وصل تونغا، كانت قصيرة وتم التحفظ عليها، حسب الكاتب، ففي ليلته الأولى، استيقظ على نساء يكشفن بطانيته ليعرفن اللغز التشريحي الذي جعله في اليوم السابق يرفض عروضهن، وقد عاد من حيث أتى للفرار من مكان يرى أن الشيطان فيه هو المتحكم.

ويرى الكاتب أن سهولة الاتصال الجنسي مع السكان المحليين ألهبت خيال الأوروبيين منذ رواية بوغانفيل، وكانت حقيقة استفاد منها عدد لا يحصى من البحارة، ولكنّ لها جانبا فظيعا، تمثل في انتشار الأمراض التناسلية التي جلبها الأوروبيون مع العديد من الميكروبات والفيروسات القاتلة الأخرى، فأهلكت السكان المحليين وأدت إلى انهيار ديمغرافي مماثل للانهيار الذي وقع للهنود الأميركيين بعد الفتح الإسباني.

وقد كانت لهذه الكارثة عواقب مدهشة، خاصة فيما يتعلق برد فعل السكان على حملات التبشير، ففي البداية جعل الخراب الصحي الذي سببه الأجانب في تاهيتي السكان “يرفضون الرب الذي يريد المبشرون إقناعهم به”، إذ كيف يمكنهم القبول برب جعل جنتهم جحيم الموت والمرض؟

ولكن بعد عقدين تقريبا انعكس المنطق، كما يقول توماس، اعتقد السكان بسبب ما يعيشونه من ضيق أن آلهتهم قد تخلت عنهم، فاستسلموا لإله البيض. وفي الثلث الأول من القرن 19، ساد حكم المبشرين في كل مكان وأصبحت الجزر مغطاة بالكنائس ولبست النساء البولينيزيات “فساتين التبشير” حتى اليوم.

الانهيار الثقافي
وأشار الكاتب إلى أن تاريخ المحيط الهادي في القرن التاسع عشر كان قصة حزينة عن التملك والانهيار الثقافي، أبرزها توماس عندما مزق الأسطورة العظيمة بأن أوروبا جلبت التاريخ إلى عالم لا تاريخ له، مؤكدا أن المحيط الهادي له تاريخ ككل مكان آخر، يعتريه التجديد والسقوط والتبادل والصراع السياسي، واستشهد على ذلك بحسن استقبال الأوروبيين في تاهيتي لأن ملكا محليا كان ينوي الاعتماد عليهم لدرء منافسيه.

وكما هي الحال في كل مكان آخر في عصر الثورة الصناعية، وصل الغرب يحدوه الطمع في الربح والتجارة إلى هذا المكان، حيث الأسماك والحيتان وخشب الصندل وغير ذلك.

ويذكرنا المؤلف أيضا أن بعض الفاعلين المحليين قد استفادوا من هذا الغرب في عشرينيات القرن الـ19، حيث كان ملك هاواي ثريا جدا، إلا أن البعض عانوا من هذا النظام.

وأسوأ مثال -كما يقول الكاتب- كان جزيرة إيستر (جزيرة الفصح أو القيامة) التي لم يهتم بها أحد لأنها كانت فقيرة لا تنتج إلا البشر، ففي عام 1862 تم القبض على سكانها بالكامل تقريبا ليستعبدهم قادمون من البيرو أرسلوهم ليموتوا من الإرهاق والحمى في مزارع أميركا الجنوبية.

وبعد ذلك بعامين، اكتشف مبشر في منازلهم المهجورة أقراص رونغورونغو المنحوتة من الخشب وعليها نظام رموز منقوشة يبدو كنظام كتابة قديم وغامض، وإن كان توماس يعتقد أنها مثال على التفاعلات الثقافية التي أوجدها الاجتماع بين العالمين، ورسمها سكان الجزر الذين رأوا الأوروبيين يكتبون وفهموا أن جزءا من قوتهم جاء من هناك وسعوا إلى تقليدهم.

وكان النصف الثاني من القرن الـ18 زمن الحكم الاستعماري، لتتقاسم القوى هذه الكعكة الجديدة، فحصل الألمان على نصف بابوا غينيا الجديدة والأرخبيل المحيط، والأميركيون ضموا جزر هاواي، واحتفظ الفرنسيون والإنجليز بما لديهم، ولكن السكان المحليين سئموا المستوطنين الذين يقضمون أراضيهم وماشيتهم، فأطلق شعب الكاناك (سكان ميلانيزيا الأصليين) بكاليدونيا الجديدة (تجمع خاص تابع لفرنسا يقع في أوقيانوسيا في جنوب غرب المحيط الهادي) تمردا عنيفا ومفاجئا في عام 1878 ولكن تم سحقه بالدم في غضون أسابيع قليلة.

وفي مواجهة الإنجليز، كان شعب الماوري (شعب نيوزلندا الأصلي) أكثر صلابة، ونجحوا في الحصول عام 1840 على معاهدة أهم من كل ما حصل عليه الآخرون، وتم الاعتراف بحقوقهم لأنهم كانوا مسلحين، كما يقول الكاتب، ويحظون حاليا ًبممثلين في البرلمان النيوزلندي ويشاركون في قضايا البلاد. (الصحافة الفرنسية، الجزيرة)

Share on whatsapp
Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on email
Share on print

رابط مختصر للمادة:

اقرأ أيضاً

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram
Share on email
Email
Share on print
Print

رابط مختصر للمادة: