حرب العشائر في لبنان: ثأر وتصفية حسابات في ظل انهيار الدولة

حرب العشائر في لبنان: ثأر وتصفية حسابات في ظل انهيار الدولة

إنّه عصر السلاح المتفلّت في لبنان، المتنقّل بين المناطق، مُحَوِّلاً رصاصه بشكلٍ مباشر إلى المدنيين الذين يسقطون قتلى ومصابين برصاص طائش هنا أو هناك، وإلى هيبة الأجهزة الأمنية والقضائية، التي تقف متفرجة أمام الجماعات المسلحة ومواكبها السيّارة، فيدب الرعب في قلوب السكان. صحيح أن ما تشهده منطقة بعلبك – الهرمل (محافظة لبنانية في قلب سهل البقاع) منذ أيام عدة، من حرب بين عشيرتي آل شمص وآل جعفر، والتي تأخذ طابعاً عشائرياً ثأرياً، ليس بظاهرةٍ جديدة في هذا البلد، لكن مشاهد أفراد العشيرتين المدججتين بالسلاح، والذين يتبادلون التهديدات والسخرية من الدولة، وهي التي وثقتها مقاطع مصورة، تأتي لتكرس مشهد انهيار مقومات الدولة اللبنانية وتحولها إلى مجرد شاهد على كل ما يدور من أحداث، وسط عجزٍ عن اتخاذ أي رد فعل، وذلك لحسابات عدة.


وظهرت في الأيام القليلة الماضية، مشاهد مصورة تظهر بعض ما يجري بين آل جعفر وآل شمص في بعلبك – الهرمل شرق لبنان، (تخضع المنطقة لسيطرة “حزب الله” و”حركة أمل” بزعامة رئيس البرلمان نبيه بري) نتيجة عملية ثأرية. لكن الأكثر لفتاً للانتباه كان استعراض العائلتين للقوة العسكرية، بعدما ظهرت كميات الأسلحة الموجودة، بمختلف أنواعها من قذائف وصواريخ، والعراضات المسلّحة والانتشار الأمني، فضلاً عن إقفال الطرقات أمام المدنيين، والتهديد العلني، عبر فيديوهات وتسجيلات صوتية، يكشف فيها المتحدثون عن كامل هوياتهم، في إشارة واضحة إلى عدم اكتراثهم بالدولة.

وتضمّنت التسجيلات الصوتية، التي تم تناقلها وتبادلها بين شبان من العائلتين، تهديدات بالقتل، وبحرق المنازل، وإقفال الطرقات، حيث تغنّى أحد الشبان من آل جعفر، بالعملية الثأرية، وأقام على “شرفها” مأدبة عشاء، وذكر اسمه بالكامل في التسجيل، الذي أشار فيه إلى وجود ألفي عنصر مسلح، يمكن أن يقوموا بعمليات في أي وقت، متهماً “حزب الله” بتهريب مطلوبين وحمايتهم. وكان تسجيل صدر عن شبان من آل شمص، وفيه تهديد بـ”قتل من يمرّ على الطريق من بيت جعفر، واتهام أشخاص بالأسماء، بالمتاجرة بالمخدرات والتعاطي، وبأنهم سيدفعون الثمن غالياً نتيجة جريمتهم”. وقال الشبان في التسجيل: “نحن نطلق النار على الرؤوس مباشرة”.


في التفاصيل، يشرح المتحدث باسم آل جعفر في الهرمل، الشيخ ياسين علي حمد جعفر، لـ”العربي الجديد”، أن حادثاً حصلَ قبل 3 سنواتٍ، تمثل في مقتل عيسى علي جعفر على يد شخصين من آل شمص، في محلة رأس العين بعلبك، وساهمت المساعي بتسليم عائلة آل شمص المرتكبين إلى القضاء، وتقديم واجب العزاء إلى آل جعفر، بيد أن الصلح لم ينجح، وبقي منطق الثأر وتصفية الحسابات في الأذهان، بحيث نفذ عددٌ من الأشخاص باسم عائلة جعفر جريمة طاولت عباس شمص، شقيق أحد المحكومين. ويضيف جعفر أنه “بعد العملية، عمد هؤلاء إلى الاحتفال، في حي الشراونة في بعلبك حيث الوجود الكبير لعائلة جعفر، أطلقت خلاله قذائف وصواريخ، وأقيمت عراضات مسلَّحة”، واصفاً ذلك بـ”الخطوة المعيبة التي نستنكرها كثيراً، والتي خلقت توتراً كبيراً في المنطقة وخصوصاً بين العائلتين”.

ويلفت جعفر إلى أنّ منطقة البقاع تعيش حالاً من الضياع منذ 40 سنة تقريباً، مجبولاً بالفقر وغياب الدولة ومؤسساتها، التي دُمِّرت بهدف المحاصصة بين زعماء الطوائف والقبائل، وهم من تجب تسميتهم بـ”عشائر تعمد إلى سرقة الناس ونهب أموالها وإفلاس البلد”. ويعتبر الشيخ العشائري أنّ “القيّمين على الوضع في البقاع، سواء من النواب أو الأمنيين أو الحزبيين، لهم مصلحة في بقاء الوضع على حاله، وتفلّت آلاف المطلوبين من العقاب والمساءلة”.


من جهته، يشرح الصحافي وأمين السرّ في مجلس النواب صبحي منذر ياغي، ابن المنطقة الذي له دراسات في الملف، لـ”العربي الجديد”، أنّ مدينة الهرمل “هي خزان العشائر في لبنان، وتضمّ عشائر من آل زعيتر، علّوه، ناصر الدين، شمص، جعفر، حمادة، علام، والمصري في بريتال حورتعلا، وشريف في اليمونة، وعشيرة آل مقداد في سهل مقنة، إضافة إلى عشائر أخرى، منها دندش، وكان لها دور في تاريخ لبنان ومعارك الاستقلال، وكان الرئيس صبري حمادة أحد أركانها، وصولاً إلى تمثيلها النيابي في البرلمان”. ويلفت ياغي إلى أن العشائر “ليست محصورة فقط بالطائفة الشيعية، فهناك أيضاً عشائر مسيحية في بعلبك تطلق عليها تسمية البشرانية، نسبة إلى بلدة بشري شمال لبنان حيث المنشأ الأساسي لعائلات منها كيروز، ورحمة وجعجع”.

ويلفت ياغي إلى أنّ هناك عادات وتقاليد كثيرة جميلة مرتبطة بالعشائر، منها إكرام الضيف وإغاثة الملهوف، لكن أسوأ هذه العادات، هي الثأر، المرتبطة بمقولة “ما تخلو يروح رخيص” (أي أن لا يذهب دم القتيل رخيصاً)، وهي ظاهرة عادت إلى أوجها في لبنان، نتيجة غياب الدولة منذ عهد الاستقلال حتى اليوم، إذ إن هذه الدولة لم تؤمن للمواطنين أدنى مقومات العيش، ما دفعهم إلى تأمين موارد رزقهم بطرق خارجة عن القانون، سواء عبر أخذ الخوّات أو تجارة المخدرات وغيرها من الممارسات. ويشير في هذا الإطار، إلى أنه في الماضي، أي في أيام العهد الشهابي، لم تكن أزمات العشائر تحلّ بالإنماء بل بالتراضي، حيث جرى تعيين العقيد بطرس عبد الساتر مستشاراً للعشائر، فقام بدعمهم، كما أن الرئيس اللبناني فؤاد شهاب حضنهم، وقرّبهم إلى الدولة، ولا سيما عشيرة آل دندش، الذين أحبوه وأطلقوا مدارس على اسمه، لكن هذه المحاولات لم تكن كافية، بل وضعت في إطار المثل القائل بـ”تقديم السمك بدل تعليم هؤلاء الصيد”، أي أن العلاج للظاهرة كان آنياً ومؤقتاً.


من جهته، يقول علي صبري حمادة (خاض الانتخابات النيابية في العام 2018 في منطقة بعلبك الهرمل في وجه الثنائي حركة أمل وحزب الله)، لـ”العربي الجديد”، إن عادة الثأر تعود الى عصور الجاهلية، موضحاً أن العشائر هي قبائل عربية قدمت من اليمن، مهاجرة إلى مناطق ودول عدّة منها لبنان، وحاملة عاداتها معها، حيث إن العشائر تتغنّى بحمل السلاح، الذي لم تنجح الدولة اللبنانية حتى في زمن الانتداب الفرنسي في وضع حدّ له.

ويلفت حمادة إلى أنّ السلاح تطوّر عند العشائر، مع تطوّر الأسلحة بشكل عام، لكن الاختلاف بدأ يحصل لناحية النمط العشائري الذي تغيّر منذ عصر الجاهلية وحتى اليوم، حيث إن الهدف الأساسي كان لحماية أبناء العشائر والعيش بأمان وسلام، مع قيام النظام العشائري بالعمل على الصلح والإصلاح للحفاظ على كرامة من وقع الجرم عليه، في حالة حصول تعديات. ويأسف حمادة لتحول هذا النظام اليوم إلى نظام عشائري هجين، في ظلّ غياب شبه تام لمقومات الدولة والقانون والقضاء، التي لو كانت موجودة، فإن من شأنها إضعاف النظام العشائري. ويلفت هنا إلى أنّ الأحزاب خرقت العشائر، واستلمت دفّة القيادة حتى في أدوار الصلح، بدل من أن يتولى العقلاء إدارة المسألة، ما يعني برأيه أن الحكم لم يعد للعقلاء. ويشير إلى أن قرار أخذ الثأر لم يكن يتخذ من قبل من وقف عليه الجرم، أو من خلال عراضات عسكرية واحتفالات وجرائم فردية، بل من جانب شيخ العشيرة.

ويرى حمادة أن لـ”حزب الله” التأثير الحزبي الأكبر في المنطقة، ما ينعكس على العشائر وتعايش الأهالي مع بعضهم البعض، إلى جانب “حركة أمل” التي لديها وجود أيضاً. ويلفت في هذا الإطار إلى وجود تخوف كبير من تفلّت الوضع، نتيجة الخلافات الموجودة على مستوى العشائر التي لم تحلّ بعد، ولم يقع الصلح فيها”. وأكد وجود التوتر بين العائلات الكبيرة، منها بيت عائلتي جعفر وشمص، وهو ما سيزداد منسوبه برأيه، في ظلّ غياب الاستقرار الأمني في البلد.
وحول سلوك الأجهزة الأمنية، يؤكد حمادة أنّ عدد المطلوبين الذين تمّ إلقاء القبض عليهم في المنطقة لا يتجاوز 5 في المائة، مضيفاً أنه “عند حدوث أي عملية، لا يُرصد تدخل للأجهزة الأمنية اللبنانية، التي لو فعلت ذلك، لكان طرأ تغيير كبير في المجتمع، علماً أنّ معظم حالات التوقيف تكون عبر تسليم العائلات للمرتكب من باب التفاوض والصلح”. كما يتحدث حمادة عن “وجود غطاء سياسي للمرتكبين، ومصلحة في إبقاء الوضع الأمني متفلّتاً”، معرباً عن اعتقاده بوجود نوايا (للدولة) “غير سليمة”. ويرفض حمادة أخيراً التعميم بمسألة العشائر، إذ إنهم مواطنون “يكسبون رزقهم من مصالحهم الخاصة ومن المهن الحرة، وهناك بينهم المثقفون والخريجون”. أما من وسائل العيش غير القانونية، فتبرز برأيه، هيمنة بعض العشائر على نقاط عبور بين لبنان وسورية لحماية التهريب.


من جهتها، تشدد منار زعيتر، المحامية والباحثة في قضايا حقوق الإنسان وابنة بعلبك الهرمل، لـ”العربي الجديد”، بداية، على ضرورة عدم تعميم الممارسات والسلوكيات على كل العشائر وتحويل الصورة من نمطية إلى عامة، علماً أن هذا لا يعني أن هذه السلوكيات ليست موجودة، والدليل هو تسجيل جريمتي ثأر في أقل من شهر.
وتحمّل زعيتر المسؤولية لأكثر من طرف، لأسباب مختلفة: أولاً العائلات والأفراد الذين لم يتمكنوا من إخراج أنفسهم من المنظومة، وتوقف الزمن بالنسبة إليهم عند القيم والمبادئ وخلفيات يدافعون عنها ويترجمونها ميدانياً عبر الجرائم. أما المسؤولية الثانية، فمرتبطة بحسب الباحثة بمسار طويل من الإهمال، الذي لا يعني تبنّي أعمال خارجة عن القانون. ورأت أن هناك ظروفاً معيشية قاسية تضع أشخاصاً في خيار الجريمة والاتجار بالمخدرات والربى والقروض والفوائد، وأيضاً عمليات الثأر. وتؤكد أنه نتيجة لذلك، فإنّ السلوكيات لا ترتبط فقط بشكل المنطقة، بل بغياب أي مسار للتنمية، ما يحول منظومة القيم أداة للدفاع عن الأعمال غير القانونية بهدف تأمين لقمة العيش.


في المقابل، تأسف ابنة بعلبك الهرمل لـ”ضعف المجتمع المدني في المنطقة”، لافتة كذلك إلى أن “الأخذ بالثأر ليس موجوداً عند كل العشائر، فهناك تفاوت في هذا المنطق”. وتستغرب زعيتر فورة الخارجين عن القانون حالياً، بعدما كان منسوبها قد انخفض خلال مراحل ماضية، ما لا يمكن ربطه إلا بانهيار البلد، علماً أن هناك ممارسات متجددة كانت اختفت سابقاً، ومنها الاحتفال بالأخذ بالثأر لساعتين، بما يدل على أننا نعود إلى الوراء”.
من ناحية ثانية، ترى زعيتر أن العامل الأهم يبقى غياب القضاء، لناحية العقوبات المشددة والمحاكمات السريعة، إذ لا عدالة رسمية، مضافةً إليها هيمنة السياسة على الجهات القضائية والأجهزة الأمنية، التي تتعاطى بقراراتها وخطواتها من باب الاستنسابية. وتؤكد الباحثة الاجتماعية وجود تخوّف من تفلّت الوضع، وسط حالة تسلّح فردي مرعبة”. ومن واقع كونها ابنة المنطقة، ترى منار زعيتر أن المسار بات بيد مجموعات شابة مسلحة في ظل غياب المساءلة والقناعة بدور القانون ورهبته، لنصبح أكثر أمام منطق “المافيات” لا “العشائر”.


ولا تقتصر العشائر المدعومة والمسيطر عليها من قبل الأحزاب في لبنان على بعلبك الهرمل، وقبلها سُجلت أحداث في خلدة بين “عشائر العرب” وعناصر من “حزب الله”، ظهرت فيها كافة معالم القضاء على هيبة الدولة من خلال السلاح المتفلت، والعمليات الأمنية المتبادلة التي لم تهدئها سوى اتصالات السياسيين النافذين في المنطقة.

العربي الجديد

Share on whatsapp
Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on email
Share on print

رابط مختصر للمادة:

اقرأ أيضاً

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram
Share on email
Email
Share on print
Print

رابط مختصر للمادة: