ذكرى 25 يناير: تصدع داخل معسكر السيسي

ذكرى 25 يناير: تصدع داخل معسكر السيسي

تحل الذكرى التاسعة لثورة 25 يناير/كانون الثاني هذا العام، والمشهد المصري مختلف جذرياً عنه في السنوات الماضية من حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي. فمنذ التعديلات الدستورية التي تم تمريرها في إبريل/نيسان من العام الماضي، ثم اندلاع تظاهرات 20 سبتمبر/أيلول الأكبر ضد السيسي والأشد خطورة، برز تصدع واضح داخل تحالف الأجهزة، القائم بين المخابرات والجيش والشرطة والقضاء والإعلام، بسبب الخلافات بين بعضها البعض تارة، وبسبب الآثار السلبية التي عادت على بعضها، جراء استئثار السيسي ودائرته المخابراتية الرقابية بأدوات الإدارة والمنح والمنع تارة أخرى.

ويمكن اعتبار 2019 “عام الشك”، ارتباطاً بحالة محسوسة في كواليس الأجهزة السيادية والحكومية بالشك في نوايا كل جهاز آخر، أو دائرة مختلفة، والشك أيضاً في قدرة النظام ككل على الاستمرار، في ظل الهشاشة التي بدا عليها منذ ظهور المقاول والممثل محمد علي ودعوته للتظاهر، مروراً بفشل المخابرات والأمن الوطني في إنتاج وجه جديد للنظام للحفاظ على لحمته وقوته في نظر العامة، بعد ترويج واسع لفكرة الانفراجة السياسية، وانتهاء بالعودة إلى استخدام الأدوات السلطوية لمنع تحويل الذكرى التاسعة للثورة إلى ثورة جديدة.

الصدع الأكبر أصاب علاقة السيسي بالجيش، ما أثبت ما كان محلاً للجدل والتشكيك منذ سنوات من قبل بعض المحللين، وهو أن السيسي ودائرته يحكمون حالياً بواسطة الجيش، وتحت ستاره، ويحاولون إرضاءه بتوسيع مجالات استفادته الاقتصادية مقابل استخدام قوته وقدراته في إنجاز المشاريع وحماية النظام، وليس أن الجيش نفسه هو الذي يحكم. فقد سيطرت حالة من عدم الرضا والتوتر بين السيسي والجيش بعد ظهور محمد علي وإثارة مسألة فساد بعض القيادات العليا وانتفاعها من المشاريع، ثم خروج السيسي للرد عليه بلهجة حادة، اعتبرها البعض ازدراء للجيش والأجهزة، عبر قوله “باسوا إيدي عشان ماتكلمش بس قلت هتكلم”، وإصراره على وضع الجيش في معادلة غير متكافئة في وجه الشعب الذي ينتمي له أفراده، غير مكترث بأثر ذلك على الروح المعنوية سواء للمواطنين أو الجنود.

وبعد ظهور محمد علي، جاءت كيفية التعامل مع آثار التظاهرات، حيث سيطرت على قيادة الجيش حالة من الغضب بسبب التدخلات المستمرة في عمله من قبل المخابرات العامة، ممثلة في مدير مكتب السيسي السابق اللواء عباس كامل، ومساعده أحمد شعبان ونجل الرئيس محمود. وجميعهم سبق أن كانوا ضباطاً في الجيش، لكنهم تعاملوا في الفترة الأخيرة معه باعتباره تابعاً للمخابرات، في إطار رغبة الثلاثة في السيطرة المطلقة على جميع الأجهزة، وقطع العلاقات بينها وبين الرئاسة إلا من خلال المخابرات العامة، التي كانت المتحكم الوحيد، وما زالت المتحكم الرئيسي، في المشهد السياسي، منذ انتقال كامل لإدارتها خلفاً لخالد فوزي بعد أزمة ظهور المرشح الرئاسي الأسبق أحمد شفيق وإعادته لمصر من الإمارات، وتبين تلقيه مساعدات من ضباط كبار بالمخابرات.

محاولات رأب الصدع مع الجيش

وساءت العلاقة بين قيادة الجيش والمخابرات إلى حد بعيد، على خلفية استئثار الجهاز، وتحديداً محمود السيسي، باتخاذ القرار الأمني في الأيام الأولى من أزمة سبتمبر، وإصداره بعض التعليمات لوزير الدفاع الفريق أول محمد زكي، الذي لم ينفذها إلا بعد الرجوع للسيسي، والتنسيق مع مستشاره الأمني أحمد جمال الدين ووزارة الداخلية، الأمر الذي أدى إلى انتشار بعض الأقاويل، منسوبة لقيادات عسكرية رفيعة، تنتقد أسلوب إدارة شؤون البلاد، الأمر الذي أزعج السيسي بشدة، بعدما نقلها له مدير مكتبه محسن عبدالنبي، الذي بات منافساً قوياً لعباس كامل أخيراً، وينازعه سلطاته.

وكان لافتاً توالي ابتعاد نجل السيسي وشعبان عن صدارة المشهد السياسي، ومواراتهما عن الأنظار، وتوزيع بعض صلاحياتهما على ضباط آخرين كانوا معروفين بعلاقتهم الوثيقة بهما، مع اتخاذ السيسي عدة قرارات سبق أن وصفتها مصادر عسكرية وحكومية، لـ”العربي الجديد”، بأنها تهدف إلى إعادة اللحمة للجيش، وتهدئة الضباط الصغار والمجندين، ومنع تضخم الشائعات عن الذمة المالية للقيادات العسكرية، بمن فيهم رئيس أركان الجيش الأسبق الفريق سامي عنان، الذي تم الإفراج عنه بعد نحو عامين من الاعتقال والمحاكمة العسكرية. كما أعاد السيسي الفريق أسامة عسكر إلى العمل العسكري مرة أخرى، بتوليه رئاسة هيئة عمليات القوات المسلحة، بعدما كان مجمداً في مناصب ذات صبغة إدارية لمدة عامين تقريباً، من بينها مستشار وزير الدفاع لشؤون تنمية سيناء، ومسؤول مشاريع الجيش في المنطقة المركزية، وذلك بعدما تم إبعاده من منصب قائد منطقة سيناء العسكرية ومكافحة الإرهاب بادعاءات تتعلق بفساد مالي بملايين الجنيهات نهاية 2016.

وبحسب المصادر فإن الاستياء المنتشر داخل الجيش كان ينصب على 3 مستويات، أولها استئثار قيادات بعينها والعاملين في الهيئة الهندسية تحديداً بأرباح استثنائية، نتيجة عملهم المرتبط بالمشاريع الاقتصادية وتفضيلها على الأسلحة التي تمارس العمل العسكري الحقيقي. والمستوى الثاني توريط السيسي للجيش بشكل عام في أعمال تحط من شأنه وتجعله عرضة للقيل والقال. والمستوى الثالث أن النظام هو من بدأ حملة التشكيك في ذمم القيادات، خصوصاً عندما تم التحقيق مع عسكر في تورطه بوقائع فساد، وعدم رد اعتباره بعد ثبوت عدم صحتها، بحسب المصادر العسكرية والحكومية، بعد تحقيقات موسعة فتحت بواسطة رئيس الأركان السابق وصهر السيسي الفريق محمود حجازي، وكذلك عند البطش بعنان بعد إعلان نيته الترشح للرئاسة، والتجاهل المستمر للوساطات والمساعي للإفراج عنه، والتخلص من عشرات القيادات الوسطى من الدفاع الجوي بعد ترشحه للرئاسة، والقبض على نحو 24 ضابطاً في الجيش خلال فبراير/شباط 2018، بسبب تأييدهم لترشحه، أو لارتباطهم بعلاقة به.

وليس أدل على قلق السيسي من توابع هذا الصدع من اتخاذه عدة تدابير لرأبه، أبرزها سحب بعض الملفات من المخابرات ومديرها -صديقه المقرب- عباس كامل، لصالح مدير مكتبه محسن عبدالنبي، الذي ما زال الطرف الأقرب للجيش داخل دائرة الحكم. كما قام بإحداث عدة تغييرات في هيئة الأركان وهيئة العمليات والحرس الجمهوري، وإدخال الجيش في حالة من الاستنفار الميداني والترصد الأمني، لإنهاء حالة الفتور والتوتر، التي وصلت إليه تقارير عن انتشارها بين الضباط والمجندين، سواء بسلسلة المناورات العسكرية التي أجريت أخيراً بالتزامن مع حالة التصعيد السياسي في ليبيا، وافتتاح قاعدة برنيس العسكرية. وحرص السيسي على توجيه رسائل للجيش مكتوبة ومعلنة في وسائل الإعلام -للمرة الأولى- للتأكيد على حيوية دوره، كما لو كان حرصاً منه على رد الاعتبار له، بعد أسابيع قليلة من تصريحاته اللافتة عن “دور الجيش الأصيل في سلامة الدولة وحماية المسار الدستوري”، فضلاً عن تكليفه وزير الدفاع بوضع الخطة الأمنية العامة، بما في ذلك محاور التنسيق مع الشرطة وغيرها من الأجهزة، بعدما كان هذا الملف يدار من الرئاسة والمخابرات مباشرة في الأعوام الثلاثة الماضية، ما يساهم أيضاً في تخفيف التوتر الذي كان مسيطراً على الأجواء بين القيادة العامة للجيش ودائرة السيسي.

وبحسب مصادر عسكرية وحكومية، فإن دائرة السيسي تعتقد أن رفع حالة الطوارئ داخل الجيش، وانخراط وحداته المختلفة في أنشطة الاستعداد العسكري والتأمين ربما يساهم في إنهاء حالة التوتر، ويعيد التأكيد على اهتمام النظام بأوضاع الجيش والدور الذي يلعبه، ليس فقط على مستوى الاقتصاد والمشاريع ومكافحة الإرهاب، بل أيضاً لضبط المشهد السياسي والميداني.

الحلفاء غاضبون

وما زاد أزمة النظام في الشهور الماضية، أنه بينما يحاول السيسي استرضاء الجيش وقياداته العليا بتوسيع مصالحهم الاقتصادية ومنحه -وبدرجة أقل بكثير الأجهزة السيادية والأمنية الأخرى- أفضلية مطلقة على حساب القطاع الخاص والشركات الحكومية وكذلك الجهاز الإداري للدولة في مباشرة المشاريع الاقتصادية، خصوصاً ذات الصفة القومية، بهدف تحقيق استفادة اقتصادية قصوى للجيش وشركاته المختلفة، وجد السيسي نفسه تحت ضغط غير مسبوق من الدولة الأكثر دعماً له ولسياساته، وهي الإمارات، فضلاً عن تجدد الانتقادات الأميركية، على خلفية الخسائر والأضرار التي يتكبدها مستثمرو الدولتين خصوصاً، والمستثمرون المحليون والأجانب بصفة عامة، بسبب استحواذ الجيش واحتكاره للعديد من الأنشطة الاقتصادية.

وبصورة مرتبكة، قبل وبعد زيارته الأخيرة للإمارات، التي كانت تستهدف التهدئة وتبديد المخاوف الاقتصادية، حاول السيسي تمرير الحديث عن مشروع غير واضح لطرح شركات القوات المسلحة في البورصة ضمن برنامج الطروحات الحكومية، المقتصرة حتى الآن على شركات قطاع الأعمال العام وبعض الشركات المملوكة للهيئات الاقتصادية. يأتي هذا على الرغم من أن جميع شركات الجيش ليست مؤسسة كشركات مساهمة من الأصل، وغير خاضعة لأي نوع من الرقابة الفعلية، بناء على التهرب المستمر من رقابة الجهاز المركزي للمحاسبات.

ثم كرر دعواته للقطاع الخاص للمشاركة في بعض المشاريع ذات الصفة القومية، التي كان من المقرر أن يستأثر الجيش بها، وعلى رأسها مشاريع تحلية المياه التي تسعى الدولة للتوسع فيها حالياً، لمواجهة النقص الحتمي في كميات المياه الصالحة للشرب والري بعد إنشاء سد النهضة الإثيوبي. وتبع ذلك الإطاحة بوزيرة الاستثمار سحر نصر، وإسناد الحقيبة مباشرة لرئيس الوزراء مصطفى مدبولي، بغية تبديد مخاوف المستثمرين من التوسع المُطرد في اقتصاد الجيش والتضييق على غيرهم بمزيد من القيود الإجرائية، أو مزاحمتهم في مشاريعهم، وهو ما تحدث بشأنه عدد من المسؤولين الأميركيين والأوروبيين مع السيسي خلال زيارته لنيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. كما كانت محور حديث مماثل، على نطاق أوسع، أثناء زيارة رئيس الوزراء للمشاركة في اجتماعات البنك الدولي.

ويعكس هذا التحرك غير المعتاد من السيسي، وصول حالة الشك والتصدع إلى الإمارات تحديداً، حيث تتحدث مصادر حكومية، على اطلاع وثيق بملف الاستثمارات الخليجية، عن “تململ متصاعد” في أبو ظبي ودبي بسبب سوء تصرف الجيش وشركاته في العديد من المساعدات التي تلقتها الدولة، وفوض السيسي الجيش في إدارتها، خصوصاً على مستوى مشاريع المدن الجديدة، كالعاصمة الإدارية والعلمين الجديدة، إلى جانب سوء التصرف في المنح والقروض التي حصلت عليها مصر.

التململ الإماراتي لم يقتصر فقط على الجانب الاستثماري المباشر، أو الدعم الاقتصادي، بل شمل أيضاً ملفين حيويين للسيسي، أولهما سد النهضة الإثيوبي الذي لم تقدم فيه أبو ظبي للرئيس مساعدة تذكر، رغم استثمار صناديق وبنوك وشركات إماراتية في مشروع السد والمشاريع المتوقع إطلاقها بعد ملء السد وتوليد الكهرباء المرجح العام المقبل. وثاني الملفات هو الإعلام، حيث بدأ يظهر بوضوح تخفيض الدعم المالي المخصص للمشاريع الإعلامية الكبرى المنطلقة من مصر، كالقنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية الكبيرة، والاستعاضة عن ذلك بدعم مشاريع صغيرة لتنفيذ مهام مؤقتة بعينها، وفق رؤية مفادها الاكتفاء بعدد محدود من القنوات والمنصات الإعلامية الكبيرة، مع التوسع في استخدام القاهرة كقاعدة لإنتاج المحتوى الرقمي المناوئ للإسلاميين وتركيا، ولكن بواسطة شركات إنتاج فني صغيرة، أقل تكلفة من الإنفاق على قنوات كبرى يعمل بها الآلاف، ما فاقم حالة الفوضى والفشل في إدارة الإعلام المحلي.

السلاح الدعائي في مأزق

الخروج الجزئي الإماراتي من السوق الإعلامية المصرية جاء بالتوازي مع تصاعد غضب السيسي من فشل إدارة المخابرات للمؤسسات الإعلامية، التي استحوذت عليها على مدار السنوات الثلاث الماضية، وعدم جني المنتظر من الأرباح المالية والأدبية والسياسية من احتكار الإنتاج الفني والإعلامي، فضلاً عن انهيار الإعلام الحكومي من إذاعة وتلفزيون (ماسبيرو) وصحافة قومية.

ويقبل النظام على الذكرى التاسعة للثورة، وهو يحاول تنفيذ خطة جديدة لإنقاذ المؤسسات الإعلامية، بإعادتها إلى رجال الأعمال الذين أنشأوها قبل استبعادهم والاستحواذ على حصصهم، بغية التخفف من الأعباء المالية والمشاكل الفنية والهيكلية. لكن رجال الأعمال يرفضون حتى الآن العودة للإدارة واستعادة الحصص الحاكمة، بمنطق تلافي لدغة النظام للمرة الثانية. وتحاول المخابرات، التي تسلمت أيضاً ملف تطوير الإعلام الحكومي، بالتوازي مع عمل بعض مستشاري السيسي، ومنهم صهره محمود حجازي، على إيجاد حلول لأزمته المالية والهيكلية، الترويج لقدرتها على تحسين مستوى الإعلام المصري وتحقيق تغير “محسوب” في السياسة الدعائية للنظام، بحيث يكتسب مساحات جديدة من الشعبية، تحت ستار ادعاء الترويج لانفراجة سياسية، لكن من دون الابتعاد عن التعليمات العامة بشأن التعامل مع المعارضة ومشاريع السيسي وغيرها من الخطوط الحمراء.

لكن الشهور الماضية، التي لم تسلم فيها أي جبهة داخل النظام من التصدعات، كانت قد شهدت عملية تخلص المخابرات بصورة ممنهجة وكلاسيكية من رجل الأعمال ياسر سليم، أحد الشخصيات الرئيسية الفاعلة في عملية سيطرة المخابرات العامة على الصحف والقنوات الفضائية في مصر خلال السنوات الخمس الماضية، والذي ألقي القبض عليه، الشهر الماضي، بدعوى اتهامه بإصدار شيكات بدون رصيد للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية (المملوكة للمخابرات والتي يتم الدفع باسمها للواجهة حالياً). ثم قامت بحركة واسعة لنقل الأسهم من ضباط وموظفي المخابرات والشخصيات، الذين يُستخدمون كغطاء أو واجهة للأعمال، إلى ضباط وموظفين وأشخاص مجهولين جدد، مع إجراء تغييرات على حجم حصص الأسهم الموثقة لكل اسم، بواسطة تجزئتها وعدم التوسع في توثيق حصص حاكمة بأسماء شخصيات بعينها، لضمان السيطرة ومنع تضخم المصالح الشخصية. مشهد القبض على ياسر سليم كان رسالة “مُرعبة” لرجال الأعمال الذين يحاول النظام إعادتهم لمشاركته في تحمل مسؤولية أزمة كان هو سببها الوحيد. كما كشفت عن الفشل المطلق في إدارة المنظومة من الداخل، وهو ما فتح باباً، لم يوصد حتى الآن، للحديث عن وقائع تربُح بمليارات الدولارات لرجال الأعمال الذين شاركوا المخابرات مشاريعها، وكذلك بعض ضباط المخابرات السابقين الذين كانوا واجهة لبعض تلك المشاريع، وحتى قيادات الجهاز الحاليين الذين يديرونها.

ولا يمكن فصل الفشل في الإدارة عن عدم تحديث المحتوى. فبعد فتح المجال في القنوات الموالية لظهور عدد من الشخصيات السياسية المعروفة بمواقفها المعارضة ونواب “تكتل 25/30” المعارض، وتخفيف الضغوط نسبياً عن المواضيع الحساسة محل التناول في الصحف المحلية، التي ما زالت واقعة تحت الرقابة الكاملة لمحتواها قبل طباعتها بواسطة إدارة خاصة داخل المخابرات العامة، جاءت حملات الاعتقال الأخيرة استعداداً لذكرى الثورة، للتأكيد على عدم جدية السلطة في تحقيق انفراجة سياسية حقيقية، الأمر الذي ما زال ينعكس على ما يقدمه الإعلام الموالي للنظام من خطاب دعائي شبه موحد بعيد عن مناقشة مشاكل وآمال الجماهير وتوعيتهم، والقريب من الخطاب الحماسي المتمادي في التأييد وخلط الحقائق وشيطنة الآخر الذي تقدمه اللجان الإعلامية الموالية على مواقع التواصل الاجتماعي.

القضاء يبتعد عن بؤرة التحالف

آخر أطراف التحالف الذي قام على أكتافه نظام السيسي، وهو القضاء، تعرض لضربة قاصمة في 2019 مع تراجع حاجة السلطة له، لانخفاض عدد قضايا العنف والإرهاب، واستقرار تأمين مصالح عدد ضئيل من القضاة المستخدمين في تسيير سياسات النظام بالتعاون مع الأجهزة السيادية. هذا الأمر يجعل القضاء -بشكل عام- يبدأ العام العاشر بعد ثورة يناير مبتعداً عن دائرة صنع القرار والتأثير، حيث وجد جموع القضاة أنفسهم أقرب لدوائر الغضب والمعارضة منهم إلى معسكرات التأييد، بعد مستجدات ثلاثة.

الأول والأخطر هو زيادة ضريبة الدخل المقتطعة من السواد الأعظم من القضاة إلى 22.5 في المائة من إجمالي الدخل، وليس فقط الراتب الأساسي، الذي كرس تناقص المزايا المالية لهم في هذا العهد، ومحاصرة تطلعاتهم لزيادتها بصفة مستمرة، ما دفع مئات القضاة -خصوصاً من الشباب- لتقديم استقالاتهم العام الماضي، لشعورهم بعدم وجود مزايا تستحق تحمل العديد من المشكلات الأخرى، مثل التوجيه في القرارات والأحكام والتدخل في العمل والضغط لزيادة الإنتاج الكمي للأحكام، خصوصاً في المحاكم المدنية والأسرية، بحجة تحقيق العدالة الناجزة، فضلاً عن تدخل العديد من الجهات في عمل القضاة بدعوى مراقبة حجم إنجاز عملهم، مثل الرقابة الإدارية.

المستجد الثاني هو ترسيخ سيطرة السيسي على تعيين جميع رؤساء الهيئات القضائية، بما فيها المحكمة الدستورية العليا، بالمخالفة لقاعدة الأقدمية وبموجب التحريات الأمنية والرقابية فقط، بموجب التعديل الدستوري الأخير، محصناً بذلك القانون، المشوب بالبطلان الذي أصدره للغرض ذاته في 2017، وتمكينه أيضاً بموجب التعديل الدستوري من تأسيس مجلس أعلى لتلك الهيئات، لضمان وحدة القرارات والاتجاهات، بما يهدر استقلال كل هيئة قضائية، حتى في التصرف في أموالها. أما المستجد الثالث، فهو إخضاع جميع الهيئات، بإلحاق المرشحين الناجحين في المقابلات الشخصية تمهيداً للالتحاق بالعمل بالهيئتين، للدراسة في الأكاديمية الوطنية للتدريب، واستخدام تلك الأكاديمية كأداة ترشيح أخيرة ونهائية لاختيار القضاة، شأنهم في ذلك شأن المتقدمين للعمل الدبلوماسي والوظائف الحكومية الأخرى.

ورضخ مجلس الدولة، ويقترب مجلس القضاء الأعلى من الرضوخ، لهذا التوجه الجديد، بعد تلقيه تأكيدات بأنه “من المستحيل التصديق على تعيين قضاة جدد بالمجلس دون إخضاعهم للدورات التدريبية”، ما يعني تقليص سلطة إدارة الهيئات في الاختيار، وأن الآلية التي فرضت على مجلس الدولة، هي أن يتم إبلاغ أسماء المقبولين الذين اجتازوا الاختبارات والمقابلات الشخصية، ثم يتم ترشيحهم من قبل الجهات الأمنية والسيادية والرقابية، ثم يتم إلحاق المرشحين المجازين أمنياً بالأكاديمية. وفي النهاية لا يتم تعيين إلا من اجتازوا هذه الدورة. والأكاديمية الوطنية – التي شهد العام الماضي تعيين عدد من خريجيها نواباً للمحافظين والوزراء- أنشأها السيسي لتفريخ جيل جديد من العناصر الإدارية الموالية له، تمهيداً للدفع بها في الجهاز الإداري للدولة والأجهزة السيادية والرقابية. وعندما عرضت المسألة على مجلسي الدولة والقضاء الأعلى، اعترض عدد من كبار القضاة عليها، مبدين تخوّفهم من الآثار السلبية لما قد يُخلفه هذا الاتجاه الجديد، ليس فقط على المحصلة القانونية للقضاة الجدد ومدى قدرتهم على استيعاب القضايا المعروضة أمامهم وإدراك مفاهيم العدالة، بل أيضاً على علاقتهم بزملائهم الأقدم والأكثر خبرة، وانضمامهم إلى الحقل القضائي محملين بأفكار وانتماءات تتناقض مع السمات المفترض تمتع القضاة بها، كالحياد والنزاهة والابتعاد عن السلطة التنفيذية.

(العربي الجديد)

Share on whatsapp
Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on email
Share on print

رابط مختصر للمادة:

اقرأ أيضاً

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram
Share on email
Email
Share on print
Print

رابط مختصر للمادة: