أسامة أبو ارشيد
Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on email
Email
Share on telegram
Telegram

رابط مختصر للمادة:

زمن المهرّجين وأصحاب البضاعة المزجاة

أسامة أبو ارشيد
Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on email
Share on telegram

رابط مختصر للمادة:

أوجدت وسائل التواصل الاجتماعي مساحات واسعة أمام الجميع، لإبداء آرائهم في القضايا العامة، دينية أم سياسية أم فكرية أم اجتماعية، أو غير ذلك. هذا يعني أن سلطة احتكار المنبر واحتكار المعلومة واحتكار الفهم ولّت إلى غير رجعة، وهذا إيجابي. ولكن، وكما في حال كل شيء تقريبا، لكل ظاهرة وجهان، مشرق ومظلم، وهذا هو واقع وسائل التواصل الاجتماعي، اللهم إن وجهها المظلم قد يكون الغالب. من ذلك أن هذه الوسائل وفّرت منبراً مشتركاً يستوي فيه العالم والجاهل، المفكّر والضحل، والخبير والدّعيّ، بل إن الجاهل والدعيَّ يملكان أدوات قوة حقيقية في هذا الفضاء لا يملكها أصحاب الرأي والعمق والدراية. وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى مسألة واحدة، ربما يعاني منها أغلب من يقدّمون طروحات قيّمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يجدون أنفسهم عرضةً لهجماتٍ شرسةٍ لا تراعي أدبا، دع عنك المنطق والفهم. وبالتالي، تجد هؤلاء من أصحاب العمق والمفيد يُعرِضون، في أحيان كثيرة، عن طرح أفكار يرون أهميتها، ومحاذير يودّون التنبيه إليها، مبنيةٍ على معلومات، ومنطلقةٍ من غيرة صادقة، ومن وعي كامل، وذلك إيثارا للسلامة أمام “مليشيات إلكترونية” لا ترعى حرمةً، ولا تعفّ عن لفظ، ولا تتورّع عن اتهام. ولا فرق هنا بين “ذباب إلكتروني” تنشره أنظمة عربية ومناصري أحزاب علمانية أو إسلامية، وليبراليين أم يساريين. لا تهم هنا الهويات الإيديولوجية، فكلهم في منطق الإساءة واحد، وإن تعدّدت المنطلقات.

أمام هذه الحالة الكئيبة التي وصل إليها الفكر ووصلت إليها المعلومة والمعرفة، برز مهرّجون يسيحون في كل وادٍ يُنَظِّرون، لهم متابعون على مواقع فيسبوك وتويتر ويوتيوب بعشرات الآلاف، بل مئات الآلاف، يشيعون بينهم الجهل والضحالة والخزعبلات والأكاذيب. الكارثة أن كثرة متابعيهم تحولت إلى تجارة، كما على يوتيوب، وكلما ضوعفت جرعات البلاهة والسفاهة وحجم الشتائم تضاعف المتابعون، وبالتالي تضاعف المدخول الشهري، كما تضاعف منسوب الجهل في صفوفنا. الأدهى أن أنظمة عربية كثيرة دخلت على خط تمويل ذلك الانحطاط في سياق معارك سياسية تخوضها مع معارضين أو أنظمة أخرى. وهكذا انتهينا، نحن العرب، وهذا ما يهم هذه المقالة هنا، مع أن الأمر ليس محصورا فينا.. انتهينا ضحايا، حتى لمّا تمنينا يوما أنه كسر لاحتكار الأنظمة القمعية منابر التعبير. لقد أضحى كثير من مصدر معلومات العوام مسموما، والمصيبة أن الكل يشرب، ويدل غيره عليه على أساس أنه النبع الأصيل النقي!

نقف اليوم أمام وحش كبير نسمّنه نحن بأنفسنا، ويكاد يبتلعنا. كثيرون منا بدأوا يُخْضِعُون القيم والمبادئ والأفكار والمعلومة والتحليل لأهواء العوام وتحيزات محيطنا. بغير ذلك، فإنك تستدعي وجع الرأس والشتائم والإهانات وانفضاض الجمهور عنك. لقد غدت دغدغة مشاعر الدهماء هي طريق السلامة. إن كنت تحمل جنسية دولة عربية ما فأنت أمام خياريْن، أن تتبنّى خطابا شوفينيا أو أنك غير وطني، فـ”الوطنية” اليوم أضحت، في جُلِّ بلاد العرب، عصبية عنصرية تتماهى مع ما يريده النظام الحاكم. وإن كنت إسلامياً فلابد لك أن تُرضي جلَّ القواعد بخطاب السقوف العليا، حتى وإن كنت أكبر مداهن وأعظم مدلس وأحذق مساوم. وهناك نوعية أخرى تساوم في كل قيمة، وعلى كل مبدأ، كي تثبت أنها متفتحة. أما إن كنت علمانيا، فلابد أن تنطلق من المقاربات المتحيّزة، خصوصا ضد الإسلاميين، لتثبت أنك لست عبيطا ولا مُغَرَّراً به، ولا يهم أن تقدّم حكم العسكر قهرا، على حكم الإخوان ديمقراطية. وهكذا دواليك.

أمام ذلك كله، انتهى مستوى نقاشاتنا، حتى ضمن محيط كل واحد فينا وانتماءاته وتحيّزاته الفكرية، نقاشاً مُسِفَّاً، ينحو إلى مهاجمة الأشخاص، بدل تلاقح الأفكار أو تطارحها. لقد انتهينا في دوامةٍ، الكل فيها غريق، ليس فيها ناجون جرّاء الجدل الصاخب الذي وقوده جهلة، وَرَبابينُهُ تجار مواقف، من جماعة “ما يطلبه المستمعون”. والحقيقة التي ينبغي أن نقرّ بها هنا أن كثيرا من جدلنا الصاخب، ومحاولات تشويه صورة بعض الشخصيات المعروفة بعمق الطرح ووضوح المشروع واغتيالها معنويا، لا يأتي من جهلة ودهماء فحسب، بل إن مصدره، أحيانا، حسد وبغضاء، أو تعصّب أعمى لشخص أو لحزب أو لفكرة من دون قبول نقاش موضوعي حول تلك المسائل. يتم ذلك بوعي من مهندسيه، فهم يعلمون أن الشعبوية هي ثقافة هذا العصر.

إسباغ القداسة على الأشخاص والتنظيمات والأفكار كارثة، ولا تقل سوءا عن من يهاجم الأشخاص والأحزاب والأفكار بغضاً من دون منطق، وليس بغية تحقيق مصلحة عامة عبر نقدٍ بناء. أيضا، وهذه نتيجة سيصل إليها أي متابع منصف، كثير من قراءاتنا ما يكتب ويطرح قائمة على تحيز مسبق ومتشنّج، خصوصا إن كنا لا نحب صاحب الفكرة محل النقاش. مثلا ترى أحدهم يناقش موقفا من شخص أو تنظيم، أو فكرة معينة في إيديولوجيا ما، فيقرأها أصحاب العمى الشخصي والحزبي والفكري والشعبوي على أنها هجوم شامل، لا نقاشا في نطاق ضيق ولهدف محدد مشروع. الأدهى أن يحاسب صاحب الطرح على ما فهمه المغرضون أو الضحلون من طرحه، أو ما يحاولون ترويجه وتشويهه به، لا على ما كتب، ولا على ما قصد، ويصبح بالتالي مطالبا بأن يدافع عن نفسه!

باختصار، هذا زمن المهرّجين وأصحاب البضاعة المُزجاة. إننا نخسر أفكاراً قيّمة، يمكن أن تساهم في مشروع نهضتنا، نتيجة متوالية البؤس هاته التي نعيشها. وبالتالي، تنتعش الضحالة والمزاودات الرخيصة التي لا تكلف صاحبها عناء ولا جهدا، ولكنها تكلف مشاريعنا ومستقبلنا نحن، جَمَعِيّاً، أثمانا باهظة. استقلال الفكر والتفكير هو درب الكبار، والخضوع لجعجعة الدهماء وابتزازها هو درب الصغار، ولكن، ومع كل أسف، إننا اليوم نعقر خيولنا ونسرج على ظهور البغال، ولذلك فإنه زمن الصغار.

(العربي الجدد)

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on email
Share on telegram

رابط مختصر للمادة:

Related Posts