فاروق بدران.. أنموذجٌ فريد لن يتكرر لكنّ أثره سيبقى

فاروق بدران.. أنموذجٌ فريد لن يتكرر لكنّ أثره سيبقى

عمان – رائد الحساسنة

مفيد سرحان: فاروق بدران كان رجلاً كبيرًا بحق يشغله همّ الأمة

مفيد سرحان: كان كريم اليد والنفس ويدفع بسخاء

مفيد سرحان: كان رجلاً عظيمًا عمل لأكثر من 70 عامًا بصمت

أسماء فرحان: فاروق بدران وجد فيه الجميع “القدوة الحسنة الحقيقية”

أسماء فرحان: كان قمّة في التواضع عفّ اللسان لا ينطق إلا بخير

أسماء فرحان: فاروق بدران معجب بالنموذج “التركي” والنموذج “الترابي”

لم يكن المفكر الإسلامي والمربي فاروق بدران شخصًا اعتياديًا، يمكن المرور على معالم سيرته الذاتية مرور الكرام؛ بل إنه شكل “أنموذجًا فريدًا” وقدوة حسنة للأجيال القادمة، بشهادة معاصريه والمقربين منه، وكل من سنحت له فرصة التعامل معه عن قرب.

عرفه أصدقاؤه ومحبوه والقريبون منه بالشخص الممتلئ بالفكر والعلم والثقافة والمتحلّي بالأدب الجمّ والأخلاق القويمة، والمؤمن بأن التأثير الحقيقي يكمن في كون الإنسان “قدوة حسنة” يعمل أكثر مما يتحدث، ولذلك كان كثير الصمت، ولكنّ ذلك لم يمنعه من أن يضفي على مجالسه جمالاً خاصًا بنوعٍ من “لطيف الفكاهة والكلام الطيب”، تجعل لمجالسته رونقًا خاصًا يشتاق له الصغار قبل الكبار.

البوصلة” في حديثها مع مقربين جدًا من الراحل الكبير، تكشف في “فاروق بدران” عالمًا واسعًا عمره يزيد عن السبعين عامًا من فعل الخير بصمت وحب وتواري عن الشهرة والمفاخرة، وسعيٌ نحو إرضاء الله سبحانه وتعالى ، وارتقاءً بحال الأمة ونجدة للضعفاء والمحتاجين وطالبي العفّة من الشباب المقبل على الزواج، وطلاب العلم ممن لا يجدون ما يعينهم على ذلك، وتقديم الجهد والمثابرة في تربية الأجيال وتسليحها بالعلم والمعرفة والأخلاق الإسلامية.

فاروق بدران المثابر الذي تشغله هموم الأمّة

يروي مدير جمعية العفاف الخيرية مفيد سرحان لـ “البوصلة” خلاصة تجربة عمرها يزيد على 25 عامًا، عمل خلالها مع الراحل فاروق بدران، فيقول: عرفت المرحوم الأستاذ فاروق بدران منذ أكثر من 25 عامًا، منذ عام 1993 من بدايات تأسيس جمعية العفاف الخيرية، ومنذ ذلك العام تعاملت معه عن قرب بشكل يوميٍ تقريبًا ودون انقطاع.

ويضيف سرحان أن العلاقة معه اكتسبت علاقة ود واحترام وقد استفدت منه الكثير، فهو يتمتع بصفات: ربما لا تتوفر جميعها في شخصٍ واحد، فهو من طبعه الهدوء والاتزان وقلة الكلام، والإنصات الجيد، واحترام الجميع الصغير والكبير، الذكر والأنثى، وهو يتصف بالمرح والفكاهة رغم تقدمه في السنّ فمجالسته لا تشعرك بالملل وبالرغم من فارق السن بيني وبينه فهو رحمه الله من عمر والدي إلا أن جلساتي معه وهي كثيرة تشعرني أنني أتحاور مع شخص في عمري أو ربما في أقل من سنّي.

فهو واسع الصدر ذو ثقافة واسعة ومتنوعة لا تملّ من الاستماع إليه وهذه الثقافة المتنوعة منها ما هو تربوي وهو بالأصل تربويٌ عريق ساهم في وضع مناهج في الأردن وخارجه، وله مساهمات تربوية كثيرة وله اهتمامات تاريخية واهتمامات سياسية واجتماعية.

ونوه إلى أنه “كتب كتابًا طبع منه أكثر من طبعة عن تركيا التي كان يتابع أخبارها باستمرار، حتى في زيارتي الأخيرة له قبل يومين من وفاته، كان يحدثني عن تركيا وعن العالم الإسلامي، وأيضًا يتابع معي تفاصيل عمل الجمعية فهو يعرف تماما ماذا يعمل، سواء في الجمعية أو غيرها من المواقع”.

واستدرك سرحان بالقول: بالرغم من مرضه إلا أن زيارتي له المتعددة سواء في البيت أو المستشفى لم يكن يتطرق فيها إلى المرض بل هموم الآخرين وقضاياهم ومتابعة عمل الجمعية باعتباره رئيسًا لها، فهو كبيرٌ بمعنى الكلمة لا تملّ من مجالسته.

وشدد على أنه حريصٌ على الوقت يحضر على الموعد، في الوقت المحدد تماماً، لا يتقدم ولا يتأخر، وكنت أمازحه أحيانًا وأقول له: “يا أستاذ أبو عمر كأنك تقف على الباب حتى يحين الوقت فتدخل”، من كثرة حرصه على الوقت؛ لدرجة أننا كنا نقول نضبط ساعتنا على قدوم الأستاذ أبو عمر.

ونوه إلى أن الراحل فاروق بدران بالغ الكرم فهو كريم.. كريم النفس وكريم اليد ويدفع بسخاء، لا أذكر أن عرسًا أقامته جمعية العفاف الخيرية إلا وكانت له مساهمة، بل له مساهمات في مواقع أخرى متعددة، في الجمعية وخارجها.

وتابع حديثه عن الراحل بالقول: هو نشيط ومثابر لا يعرف الكسل ولا الجلوس دون عمل؛ بل كان يحدثني أحياناً عن بعض أصدقائه ممن تقاعدوا، ويقول لي: إنهم جالسون في البيوت لا ينجزون شيئًا.

وأضاف أنه يعمل في المجال الخيري، وفي مجال التوثيق، خصوصًا أن الله عز وجلّ حباه بذاكرة قوية، وقد توفي وما زال يذكر كل التفاصيل القديم منها والحديث، فعلى سبيل المثال إذا مر عليه رقم كنت أتفاجأ أنه يحفظه، وعلى سبيل المثال لو كان مبلغًا ماليًا، يحفظه بالدنانير والقروش أو الفلوس، وكنت في كثير من الأحيان يسألني عندما كان سابقًا أميناً للصندوق سؤالاً معينًا، فأقول: يا أستاذ أبو عمر أنت أكثر مني دقة، وأنا متأكد أنك تعرف الرقم بالدقة، وكنت أحيانًا أسأله فأجد أن الرقم مطابق تماماً لما هو موجود. فالدقة ليست لديه في الأرقام فقط؛ بل في الوقائع والتفاصيل، وكما قلت القديم منها والحديث.

عمل الخير والمثابرة عليه حتى آخر نفس

وقال سرحان في حديثه المفعم بالذكريات مع الراحل بدران: كان على صلة مع جمعيات أخرى كجمعية إقرأ الثقافية التي تساعد الطلبة غير العرب الدارسين في الأردن للغة العربية والشريعة الإسلامية، وكان يقدم لهم من ماله الخاص؛ بل أكثر من ذلك يذهب إلى تجمعاتهم في المحافظات ويقدم لهم الملابس في بداية فصل الشتاء وفصل الصيف، والكتب الدراسية، والكتب الإسلامية والثقافية على نفقته الخاصة.

وتابع: أذكر أنّه في مرضه الأخير، عندما أدخل المستشفى طلب من الأطباء أن يأخذ قسطا من الراحة، إلا أنني تفاجأت بعد يوم من خروجه من المستشفى بذهابه إلى المفرق، فقلت له: يا عم أبو عمر الأطباء نصحوك بالاستراحة، فلتاخذ يومين أو ثلاثة لتستريح فها، فقال: عليّ واجب أن أؤديه، فيجب أن أذهب للمفرق لأقدم للطلبة بعض المساعدات، فاتصل مع السائق وذهب إلى المفرق.

وتحدث سرحان عن موقف آخر للراحل تذكره أثناء مرضه، مفاده أن إحدى العائلات التي يعيلها في محافظة الزرقاء منذ ما يقارب 20 عامًا وهو يرعى أبنائها حتى أن بعضهم تخرجوا من الجامعات، وأيضًا أصر على الذهاب بنفسه للأسرة لتقديم المساعدة الشهرية، بالغرم من مرضه، وعندما حدثته قال سأذهب ولن أنزل من السيارة وهو يريد أن يقنعنا بأنه لا يريد أن يتعب نفسه.

وقال سرحان: أذكر أيضاً أنه في حفل الزفاف الجماعي الأخير الذي نظمته الجمعية قبل عيد الأضحى المبارك، وكنت على تواصل معه وأزوره في البيت والمستشفى، أصرّ على الحضور إلى موقع الحفل قبل يومٍ من موعده، وهذه كانت عادته منذ 25 عامًا؛ لا بد أن يأتي لمكان الحفل قبل موعده بيومين أو ثلاثة، عندما نبدأ بالتحضير للعرس الأمر الذي يستغرق منا عدة أيام، ويطمئن بنفسه ويتفقد وكان دائما يتصل معي ويقول طمني كيف الأمور، وهل أنتم بحاجة إلى مساعدة، أو بحاجة إلى المال.

وتابع حديثه: أصر على الحضور إلى مكان الحفل بالرغم من مرضه، وقد حاولت ثنيه عن الحضور واتصلت مع زوجته وأبنائه وأنا أعرفهم جميعًا ورجوتهم أن لا يأتي ولكنّه أصر على الحضور، واتصل بي وهو في الطريق، وقال أنا بعد دقائق اكون في مكان الحفل، فقابلته هناك وكنا بدأنا الإعداد للحفل في الموقع، فاطمأن بنفسه على الترتيبات، وقلت له: يا عم أبو عمر، غدًا الحفل والطقس حار والحفل فيه نوع من المشقة لأنه يستغرق وقتًا فأرجوك أن تستريح والإخوة الشباب في الهيئة الإدارية يقومون بالواجب، فقال: سأحضر إن شاء الله وفعلا حضر قبل موعد الحفل وكعادته وشارك في تسليم الهدايا للعرسان وكان سعيدًا جدًا ومسروراً من نجاح الحفل وما قدم للعرسان والعرائس.

ونوه سرحان بالقول: في زيارتي الأخيرة له تحدثنا في عدد من الأمور، ومنها نشاط تقوم الجمعية على الإعداد له حول دور الأسرة في الأمن المجتمعي، بالتعاون مع جمعية إعجاز القرآن والسنّة، فحدثته عن هذا النشاط وما اتفقت عليه اللجنة من برنامج لهذا النشاط، فاستمع إليّ بكل إنصات كعاجته، وأبدى إعجابه بما توصلت له اللجنة التحضيرية من موضوعات، وقال إن هذا الموضوع والأسرة والقيم في غاية الأهمية.

وأضاف، كنت أنظر إليه، وأقول في نفسي: كأن هذه الزيارة الأخيرة، مع ذلك قلت له: إن شاء الله تكون صحتك جيدة وتشارك في حفل الافتتاح وإلقاء الكلمة، فقال: إن شاء الله سأكون موجودًا. وبقيت أتواصل معه وهو يتابع احتياجات العرسان ويحرص على المساعدة في تأمينها.

وقال عن الراحل بدران: كان محبًا للكتابة والتأليف، وكنا نلجأ إليه عندما نحتاج أن نطبع كتابًا، وهو يتقن اللغة العربية فكان يتطوع دائمًا لتدقيق مطبوعات الجمعية ويقرأها أكثر من مرة كلمة كلمة، ولا يمل، وكان يقول لي إنني أكو مسرورًا وأنا اقوم بهذا العمل، علما بأن المطبوعة لا تحمل اسمه، إلا أنه يتقن هذا العمل الذي لا يعلمه إلا الله.

وأشار سرحان إلى أنه ألف كتابًا قيما عن الذوق السليم على نفقته الخاصة، إضافة إلى مؤلفاته الشخصية الأخرى، التي أثنى عليها كل من اطلع عليها، خصوصًا كتابه عن تجربته الشخصية، فأنت عندما تقرأ هذه التجربة تجد أن فيها الكثير من المعلومات والثقافة ليست فقط لصاحبها بل لمن يقرأها.

رجلٌ فريد من نوعه.. أثره سيبقى

وقال سرحان: تدرك كم كان هذا الرجل عظيمًا، عمل لأكثر من 70 عامًا بصمت، ربما لم يعرفه الكثيرون ولم يحظ بشهرة لكن كل من جالسه تأثر به  وانتفع من علمه، وأخلاقه، وأذكر في خصوصية العلاقة بيننا أنه كان دائمًا يقول لي وأمام الناس: “مفيد بتأمّر عليّ هنا، وأم عمر في البيت”.

وشدد سرحان أنه بلا شك سنفتقد شخصية ربما يصعب تعويضها، خصوصاً وقد جاءت وفاته بعد فترة قصيرة من وفاة الدكتور عبداللطيف عربيات، وقد خسرنا في الجمعية شخصيات متميزة، ومنها المرحوم الدكتور نعيم الشلتوني، والدكتور عبدالسلام الزميلي والمرحوم الشيخ وليد شابسوغ، الذين عملوا لسنوات متطوعين؛ بل يدفعون من مالهم الخاص، ويتنقلون بسياراتهم الشخصية لخدمة الجمعية لأكثر من عشرين أو خمسة وعشرين عاماً.

وختم حديثه بالقول هذه النماذج يصعب تعويضها، لكن أثرها سيبقى سواءً على عمل الجمعية أو المجتمع عمومًا، فأبو عمر (فاروق بدران) “رجل فريد من نوعه”.. كل من عرفه يكن له مرتبة عظيمة في نفسه أكثر من المناصب، وهذه قيمة الإنسان الذاتية بعيدًا عن موقعه، فكل من يعرفه يحترمه ويقدره لذاته وليس لموقعه.

بدران المتسامح محب الأطفال المعجب بالنموذج التركي

تروي مديرة الاخبار في “إذاعة حسنى” أسماء فرحان لـ “البوصلة” عن “خالها” الراحل فاروق بدران تفاصيل بالغة الدقة عن رجلٍ محبٍ لعائلته بالغ اللطف مع الصغار والكبار واصلٍ للرحم؛ لا يحمل الضغينة ولا الحقد حتى لأشد أعدائه الذين ما زالت آثار سياطهم من شدة التعذيب ظاهرة على ظهره، وتجد فيه “القدوة الحسنة” عفّ اللسان الذي لم يتلفظ بسوء طيلة حياته، وهو المدرسة التي تعلم الأجيال لا بالأقوال؛ بل بالأفعال كيف يكون مجتمع الجسد الواحد المتراحم المتكافل.

تقول أسماء فرحان: خالي فاروق بدران رحمه الله كما أذكره، لم يخرج من فمه طيلة حياته كلمة جارحة أو نظرة أو تصرف يؤذي أي طفل، فكان ودودًا محبًا يرعى بكلامه جميع الأطفال، حتى من شدة لطفه لا يمكن أن يسلم على طفل إلا أن يقبل يده.

وتضيف فرحان: كان حريصًا جدًا على صلة الرحم، وبالذات النساء فلا أذكر أنه انقطع “عزيمة شعبان” قبل شهر رمضان المبارك منذ 40 عامًا، ويفاجئك من يدعو من النساء، فتجد ضمن الضيوف ليس الأخوات فقط؛ بل الأخوات وبناتهن وفروعهن من بنات بنات الأخوات وأزواج بنات الأخوات، ويجتمع في بيته ما يزيد على المائة من الصغار والكبار.

وتصف الراحل بأنه كان سهلاً مريحًا مضيافاً، لا يتكلف بالضيافة، وكل شخصٍ مرحب به في بيته في أيّ وقتٍ، ولا يوجد لديه تكلف بان الوقت مناسب أو غير مناسب أو البيت معد لاستقبال الضيف أو لا، وهو صريحٌ في ذلك أيضأ وكان سهلاً في هذا.

وقالت فرحان: من الأشياء التي أذكرها أنه كان يستقبلنا كأطفال في بيته، والفضل له ولزوجته الطيبة هيفاء الشاكر أيضًا، وأنه لم يكن يضيق ذرعًا أن يبيت في بيته بمدينة السلط أطفال العائلة حتى يصل العدد إلى 15 طفلاً يقضون الليلة والليلتين والثلاثة عنده بدون أي تأفف، ودائمًا عنده ما يمتعنا به من القصص والنكات والكلمات اللطيفة، وهو رجلٌ مرحٌ جدًا.

كانت جلساتي معه وأخوالي جميعًا، جلسة جميلة تملؤها الثقافة والمعرفة والمناظرات الشعرية، وكان حافظًا للشعر وينظمه أيضًا.

وتروي عنه أنه كان باحثا ومقدرا بشكلٍ خاص للتجربة التركية المعاصرة ومن قبلها النموذج الترابي “السوداني” وكتب في ذلك، ولا يمكن أن تجلس معه إلا ويتحدث لك عن التاريخ والذكريات.

وأضافت فرحان أنه من الأشياء الجميلة فيه يمكن أن ينتقد أشخاص، لكن لا يتكلم عن أحد بغيظ أو حقد أو تحقير، لدرجة أن واحدًا مثله آثار السياط التي ألهبت ظهره في سجون عبدالناصر ما زالت آثارها على ظهره، ولكنّه مع ذلك لم يحدثنا يومًا عن هذه الأيام كمأساة شخصية أبدًا.

وقالت: لم يكن شخصًا يتكلم لا بغيظ ولا بحقد ولا بانتقام، ويمر عن هذه الأيام مرور الكرام، ويتحدث عن لحظات اعتقاله في مصر بالطرفة والظرف ولا يتحدث عنها بغيظ أو بحقد ويرويها كجزء من الماضي.

وذكرت فرحان صفة في الراحل بدران تعرفها، أنه كان وفيًا لكل من يعرف، وبيته دائمًا عامر بالضيوف.

ونوهت إلى أنّ من صفاته أنه مؤدب “الملافظ”، قائلة: لم أسمع خالي يومًا من الأيام يلفظ لفظًا نابيًا أبدًا؛ ونحن نتحدث عن شخص بطبيعة العلاقة العائلية اجتماعنا دائمٌ وليس في المناسبات فقط.

أنموذج وجيل فريد للأخوة في الله والقدوة الحسنة

وعن سر العلاقة القوية التي كانت تربط بين الراحل فاروق بدران رحمه الله، وبين المرحومين الدكتور عبداللطيف عربيات ووالدها الدكتور إسحاق فرحان، تؤكد أنها لم تكن مجرد معرفة أو صحبة عادية، فأنا فقدت ثلاثة خلال فترة قصيرة، والدي وخالي وعمّي الدكتور عبداللطيف، وبالنسبة لي هؤلاء الثلاثة ليسوا أصحاب وأقارب، بل هم “أنموذج فريد في الأخوة في الله”.

وتتابع حديثها: هذا لا يعني أنهم لم يختلفوا يومًا من الأيام، لكن والدي رحمه الله لم أسمعه يومًا من الأيام ذمّ أحدًا خالفه، فإن قلنا له لم فعل خالنا هكذا: قال فاروق زلمة طيب.. لعل الله اطلع عليه فغفر له، وإذا سألناه: لم فعل عمنا عبداللطيف هكذا.. يقول: عبداللطيف زلمة أصيل، ففي بيتنا وفي بيوتهم لا يمكن إلا أن يصفوا دائمًا لبعضهم وإن اختلفوا، وليسوا هم فقط بل إخوة كثر وهم جيل بأكمله، ويمكن نحن نفقد هذا الجيل الواحد تلو الآخر ممن جاوزوا الثمانين وهم نماذج لا يمكن أن تتكرر.

وتشدد على أن الأجيال اللاحقة لهذا الجيل الذي ينتسب له فاروق بدران، اكتسبت منهم الكثير لأنهم لم يكونوا ينظرون لأنفسهم كأصحاب مناصب؛ بل كانوا قمة في التواضع ومحبين للأجيال التي تلتهم ويسعون لخيرهم بكل ما أوتوا من قوة.

وتروي فرحان عن الأيام الأخيرة للراحل بدران، فتقول: زرت خالي قبل أسبوعين في المستشفى في العيد، وبعد أن سلمت عليه قال لي: مش مقبول سلامك، سألني عن ابنتي لين، وقال: “جيبولي لين، هذه صاحبتي، هذه حبيبتي”. ورغم أن وضعه الصحي حرج طلبت من ابنتي الحضور للمستشفى فورًا وحضرت، وعندما دخلت وسلمت عليه وأخبرته أنها “لين” خاطبها باللغة التركية: “نسل سن” (كيف حالك؟ باللغة التركية) لأنه يعلم أنها تتحدث التركية.

وتتابع قائلة: عندما كنت أخبر أبنائي أننا سنقوم بزيارة خالي فاروق يوافقون على الذهاب مباشرة لأنهم يعلمون أن جلسته ممتعة وفيها الكثير من الثقافة والقصص ذات العبرة والهاتفة وليست مثل بعض قصص الكبار المكرورة عشرات المرات، ودائماً عنده الشيء الجديد ليمتعك به وفيه العبرة والفائدة والعظة، والجلسة معه لا يمكن إلا أن تكون مفيدة.

وتشدد فرحان على أن جيل فاروق بدران لم يكن يضع نفسه في موضع الواعظ ولم ينصب نفسه بموضع الأكثر علمًا أو المؤدب أو المنتقد؛ بل كانوا في موقع “القدوة الحسنة” بحيث كنا مطلعين على جميع تفاصيل حياتهم ونلمس ذلك الخير فيهم عمليًا بشكل يومي.

وتقول عن ذلك الجيل الفريد: لم يجلس فيهم أحدٌ ليأمرنا كيف نتصرف أو لا نتصرف أو يخبرنا بما نفعل وما لا يجب أن نفعله، فهم لم تكن لديهم رسالة لفظية للشباب والأجيال اللاحقة؛ لأنهم كانوا قدوات حقيقية.

وختمت فرحان حديثها عن الراحل بدران بأنه كان صاحب ذاكرة حديدية فيما يتعلق بالرواية والحدث لكنه كان أكثر الناس نسيانا ” لإساءة الآخرين له، وهذه العبارة تلخص فاروق بدران رحمه الله”.

فاروق بدران.. البطاقة الشخصية

توفي في الأردن الأحد، المفكر الإسلامي فاروق بدران، الذي يعتبر من أبرز المتخصصين في العلوم التربوية، وتأسيس المناهج، والعمل الدعوي.

وعمل بدران في العديد من الجامعات والمؤسسات التربوية في الأردن، وقطر، وعمان، وأسس مع نخب أخرى المناهج التعليمية، وساهم في إثراء الحياة التربوية.

ولد بدران في السلط شمال الأردن عام 1932 من أسرة هاجرت من نابلس، وتلقى في السلط تعليمه الأساسي والثانوي، ليبدأ لاحقا دراسته الجامعية في مصر بعد ثورة 1952، بجامعة عين شمس، ثم إلى بغداد ليتخرج من جامعتها عام 1959.

تنقل بدران في العديد من المناصب المهمة في قطاع التعليم، سواء في الأردن أو في دول عربية أخرى، وعين عام 1990 مديرا عاما لصندوق المعونة الوطنية الأردني.

(البوصلة)

Share on whatsapp
Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on email
Share on print

رابط مختصر للمادة:

اقرأ أيضاً

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram
Share on email
Email
Share on print
Print

رابط مختصر للمادة: