وائل قنديل
Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on email
Email
Share on telegram
Telegram

رابط مختصر للمادة:

فسيلة مصرية تضيء مقبرة غريبة

وائل قنديل
Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on email
Share on telegram

رابط مختصر للمادة:

ليست المسألة أين مات وأين دُفِنَ الصحافي المصري الشاب محمد أبو الغيط، بل الأهم كيف عاش وماذا ترك، تلك هي المسألة.

يحلو لقطاع، أو قطيع واسع من جمهور الوطنية الفاسدة التي يؤسّس لها نظام غير مسبوق في فاشيّته، أن يسخر من الذين يرحلون بعيدًا ولا يدفنون في أرض بلادهم، بوصفهم من المطرودين من جنة هذه الوطنية، أو بالأحرى الوثنية، الجديدة.

أستطيع أن أزعم إن رحيل الشاب محمد أبو الغيط، في لندن، بعد معركة خاضها ببسالة مع مرض السرطان، كان الخبر الأول في مصر، والحدث الذي فرض نفسه على الجميع، حيث نعاه الملايين وكأنه ابن كل واحدٍ منهم، والشاهد أن الخاسر في هذه الحالة أوطانٌ ضاقت على محبّيها الحقيقيين، فدانت واستكانت لأوغاد جبناء يخيفهم أن يعود جثمانٌ في كفن لكي يدفن في ترابها. ولذلك أشفق كثيرًا على الذين تنادوا يطلبون من النظام بادرة إنسانية بشأن الراحل المهذّب وعائلته، كأن تحترم السلطة، مثلًا، حكم القضاء ببراءة حماه، والد زوجته الشابة التي ترمّلت في الغربة، لكي يرعاها وطفلها.

 ليس عندي الكثير مما يحكى من ذكريات شخصية مع هذا الراحل الجميل، ربما أكثر ذكرياتي معه هي الدقائق التي مشيت خلفه في الطريق الممتدّ من المسجد إلى المقبرة.

وأنا أقف على القبر مع الجموع الغفيرة الحزينة، شعرت بأننا لم نكن ندفن ميتًا، بل كنا نغرس شجرة طيبة في أرض أخرى غريبة، بعيدًا عن أرضها الأصلية التي لم تحتمل بهاءَها فلفظتها، فما أسعد هذه الأرض الغريبة بشتلةٍ من الضوء نزلت للتو كي تنير جوفها، وما أتعس البلاد التي تنفي طيبها وتدلل خبثها.

طوال طريق العودة من المقبرة، لم يفارقني مشهد جسده النحيل المسجّى في الأبيض الزاهي، وهو يأخذ طريقه إلى العمق بسلاسة وبساطة، كأننا لم نكن نواري جسدًا فاقدًا للحياة التراب،  بل كنا نزرع وردةً في حديقة الذاهبين إلى الأفضل .. هكذا رأيت قبرك، يا محمد، حوضًا من الزهور في حديقةٍ ليس بها إلا الخضرة .. قبر أخضر بلون روحك وقلبك، تبلّله قطرات مطر كأنها مكلّفة بمهمة سقي فسيلة غرسناها للتو.

لا أظن أن نبوغه المهني بحاجة لشهادة من أحد، فقد بلغ تحقّقه الكامل قبل أن يصل إلى الثلاثين، ثم رحل في منتصف المسافة بين الثلاثين والأربعين، تلك المرحلة التي يجد فيها الكاتب نفسه أمام أسخف اختبار: مرحلة المراجعات التي تبدو فيها الكتابة أكثر تحسّبًا وتحسّسًا لمواضع الأقلام، متخلية عن كثير من صخبها واندفاعها، أو نزقها أحيانًا، أو تدفّقها باتجاه التجريب.

وأما عن إنسانيته المدهشة، فتكفي كلمات أمه الصابرة المحتسبة، وهو تتمتم بكلماتها أمام المقبرة عن عذوبةٍ غمرت الكون كلها ثم عبرت سريعًا، وعن روح هادئةٍ مطمئنةٍ أسلمت نفسها لخالقها، صاعدة سلم الاحتضار برشاقة، وكأنها ذاهبة إلى عرسها في دار البقاء.

بعد انتهاء مراسم الدفن، بقي المشيعون واقفين حتى حلّ الظلام يلهجون بالدعوات ويتلون السلام عليك، يا محمد، في مقبرةٍ نحسب أنها باتت مزروعةً بالضياء، كأنها روضةٌ من رياض الجنّة كما دعونا جميعًا لك، وكلنا يقينٌ باستجابة الله الذي خلقك جميلًا واستردّك أجمل، بعد أن أدّيت أمانته وأتممت رسالتك.

في الضوء عشت وإلى الضوء نزلت، ولا يهمّ هنا أين انتهت الرحلة، أو متى انتهت .. المهم كيف كانت الرحلة وماذا قدّمت، فارقد في سلام، بعيدًا عن البلاد التي لم تتورّع عن محاولة طرد طه حسين من قبره والتحرّش برفات يحيى حقّي.

(العربي الجديد)

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on email
Share on telegram

رابط مختصر للمادة:

Related Posts