لماذا وسعت BBC مكتبها في الأردن وهي تنهي عقوداً “الاستعمار” المحبّب؟

لماذا وسعت BBC مكتبها في الأردن وهي تنهي عقوداً “الاستعمار” المحبّب؟

البوصلة – بعد أيام قليلة من إعلان هيئة الإذاعة البريطانية عن برنامج لخفض التكاليف والانتقال إلى المنصات الرقمية، وبالتالي وقف بث الإذاعات الناطقة بـ10 لغات بينها العربية، بدأ يتّضح تدريجياً مصير 400 موظف سيخسرون وظائفهم في الهيئة مع إقفال هذه الإذاعات.

مصير الموظفين

في الخدمة العربية التي انطلقت عام 1938، سيخسر 71 شخصاً عملهم في الإذاعة، وسيقدّم هؤلاء على طلبات “رغبة في المغادرة” Redundancy، بهدف الحصول على تسويات مالية، مرتبطة بسنوات خبرتهم ومسماهم الوظيفي. وفي وقت يؤكد فيه عاملون في الإذاعة أنهم لم يكونوا على علم إطلاقاً باتجاه الهيئة إلى إقفالها، تستشري حالة من الغضب الكبير، خصوصاً أن اتجاه بي بي سي لتفعيل خدماتها الرقمية، سيكون خارج لندن، في عمّان تحديداً.

في حديث مع عاملين داخل الإذاعة العربية، يشرح هؤلاء أن البيان الذي أصدرته الهيئة الخميس للإعلان عن خطة خفض التكاليف، كان فضفاضاً وغير واضح، من دون الحديث عن تبعاته على الخدمة العربية ككلّ سواء في التلفزيون أو الموقع، ومن دون التوضيح أن الانتقال إلى خدمة الديجيتال لن يترافق مع نقل للوظائف. بل سيجبر الجميع على مغادرة العمل، ومن يريد الالتحاق بالخدمة الرقمية الجديدة، عليه التقديم للوظائف المتاحة، وعددها لن يتجاوز 30 وظيفة.

توسيع مكتب عمّان

ويتساءل مصدر من داخل الهيئة عن اختيار نقل الخدمة خارج لندن، متسائلاً عن السعي حقيقة لخفض النفقات من خلال توسيع مكتب عمّان حيث تكلفة المكتب مرتفعة أساساً.
ويطرح المصدر أسئلة كثيرة حول حرية العمل في الأردن، خصوصاً بعد نقاشات كثيرة واضطرابات عرفها المكتب في السنوات القليلة الماضية، مشيراً إلى البلبلة التي حصلت على سبيل المثال في قضية الأمير حمزة بن الحسين. إذ عرف المكتب انقساماً سياسياً حول جدوى تغطية الخبر.

ورغم أن الأردن يبدو الأكثر استقراراً حالياً بين الدول العربية، فإن بي بي سي ستنقل جزءاً من خدمتها الجديدة كذلك إلى مكتب القاهرة، لكن لتغطية ومناقشة قضايا الرياضة والترفيه، بعيداً عن السياسة، بينما سيبقى مكتب بيروت على حاله، نظراً إلى غياب أي استقرار سياسي أو أمني في البلاد.
الخطة الجديدة لن تشمل فقط الإذاعات، بل إن مناصب إدارية كثيرة ستختفي، بينها منصب مدير الخدمة العربية سام فرح إذ سيصبح للخدمة العربية والخدمة الفارسية على سبيل المثال، مدير واحد.
وبينما ينتظر الموظفون بدء المفاوضات مع نقابة الصحافيين في لندن في الأشهر المقبلة، يرى مصدر من داخل الهيئة أن إقفال كل هذه الوظائف لم يكن مفاجئاً، فالهيئة بشكل عام تعاني من الترهّل، والمحسوبيات، في الخدمة العربية، وخدمات أخرى، وقد عرفت في العقدين الأخيرين فائضاً من الموظفين، ما زاد من هذا الترهّل الذي باتت الإدارة نفسها عاجزة عن احتوائه.

عودة إلى البدايات

كان المصري أحمد كمال سرور المذيع الأول الذي افتتح بصوته، البث الإذاعي لـ”بي بي سي” بالعربية سنة 1938 معلناً بنبرته المتأنيّة: “سيداتي وسادتي، نحن نذيع اليوم من لندن باللغة العربية لأول مرة في التاريخ وإنه ليسرّنا أن نخاطب المستمعين في الشرق الأدنى بلسانهم العربي الفصيح”. كان سرور أحد نجوم الميكروفون في مصر والعالم العربي في الثلاثينيات والأربعينيات، هو الذي نعى الملك فؤاد عام 1936 ثم أعلن تولّي الملك فاروق للعرش. وهو الذي أعلن نبأ إبرام المعاهدة البريطانية المصرية في السنة نفسها.

كانت الإذاعة العربية أول خدمة إعلامية تطلقها BBC بلغة غير إنكليزية، وكانت تعرف منذ نشأتها وحتى التسعينيات بـ”القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية”، ثم أصبح تعريفها وافتتاحيتها منذ التسعينيات: “هنا لندن: بي بي سي” مسبوقة بدقّات ساعة بيغ بين الشهيرة.
جاء قرار إطلاق خدمة البث باللغة العربية كردّ مباشر على ما كانت تقدّمه إذاعة “باري” الإيطالية الفاشية للمستمعين في البلدان الناطقة بالعربية من محتوى دعائي يهاجم السياسة البريطانية في فلسطين على وجه التحديد. وهو ما دفع وزير المستعمرات البريطانية وليام أورمسبي جور للقول عام 1937: “إن الوقت قد حان لضمان وصول الرؤية البريطانية للأحداث في المنطقة بشكل مباشر وفعّال. إنها ضرورة استعمارية”.

ولم يكن قرار الهيئة العامة توسيع حضورها في المنطقة العربية قراراً اعتباطياً أو بسيطاً، إذ أولى المسؤولون البريطانيون أهمية قصوى لتفاصيل هذا الحضور وللمحتوى الذي سيعبّر عنه، حتى أن اللهجة التي يجب أن تقدّم عبرها الأخبار لم تغب عن اهتمام القائمين على المشروع “الاستعماري” فناقش مجلس الوزراء في جلسة خاصة قضية اللهجة الليبية التي تستخدمها إذاعة “باري” والتي يصعب أن تصل إلى أكبر عدد ممكن من الناطقين بالعربية. فجرى اعتماد العربية الفصحى التي تجمع كل اللهجات على تنوّعها واختلافها. واقتصر البث في البداية على 65 دقيقة يومياً تتخلّلها نشرة إخبارية واحدة فقط، ثم ساعة و25 دقيقة من البث عام 1940 مع نشرتين إخباريتين إلى أن ارتفعت ساعات البث إلى 3 ساعات مع نهاية الحرب العالمية الثانية وإلى 18 ساعة مع حرب الخليج الأولى عام 1990 وصولاً إلى 24 ساعة بث مع حرب الخليج الثانية عام 2003. وكانت وزارة الخارجية هي المصدر الأساسي للأخبار قبل تأسيس مكتب للإذاعة في القاهرة عام 1943. 

هنا لندن

على مدى أكثر من ثمانية عقود، شكّلت “هنا لندن” طقساً خاصاً ومختلفاً بالنسبة لملايين المستمعين ممن يفتقرون في بلدانهم للصحافة الحرّة والإعلام الشفّاف والبرامج السياسية والفكرية والاجتماعية الجريئة. كانت نافذة على الأحلام “الكبيرة” التي طبعت أجيالاً بأكملها وكانت الثابت في عالم متبدّل يشهد تغييرات جوهرية وقفزات كبيرة. و”هنا لندن” كانت تعني بالنسبة لملايين المستمعين: “هنا العالم، هنا ما وراء الحدود وما هو أبعد من الهويات الضيّقة والبحار والجبال والحواجز”. تلك الـ”هنا” مثّلت لعقود طويلة واقعاً مغايراً للـ”هناك” حيث قمع الحريات والإعلام الموجّه والسجن والفقر وتغييب الحقوق وتهميش الآخر وسحق الاختلاف. وانطلاقاً من “هنا” و”هناك”، جاء قرار الإغلاق اليوم محبطاً بالنسبة لأجيال لا تكاد تفعل سوى مراكمة الخيبات والخسائر في عالم “متوحّش” باتت أخباره القاتمة حاضرة مع كل شهيق وزفير على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى صفحات الجرائد الإلكترونية التي تحدّث أخبارها كل ثانية.

إلا أن “بي بي سي” قرّرت أن “تتخلّى” عن متابعيها العالقين في “الزمن الجميل” وأن تدلف هي الأخرى إلى عالم الديجيتال والإعلام الرقمي والبودكاست وأن تجعل من الإنترنت بوّابة لغاتها الأجنبية إلى بلدان يعاني سكّانها من هشاشة شبكة الإنترنت أو من رقابة صارمة أو من انقطاع التيار الكهربائي. وبذلك، يصبح إغلاق خدمات الراديو بعشر لغات من بينها العربية والفارسية والصينية والهندية بمثابة تخلّ عن ملايين المستمعين الذين نشأوا على برامجها ولم يعبر أذهانهم ولا مرة احتمال أن تشيخ الإذاعة وتترجّل وتستقيل. إلا أن الأزمة الاقتصادية الأخيرة تفوّقت على “المصلحة الوطنية وأولوية الحفاظ على النفوذ البريطاني وهيبة المملكة المتحدة في الخارج”. 

كان طوني هول المدير العام السابق لـ”بي بي سي” قد صرّح قبل عامين أن “قوة خدمات الأخبار العالمية في القناة هي التي دفعت بالمملكة المتحدة لأن تكون قوة مؤثرة عبر العالم”، مشيراً إلى الرابط بين الصورة الإيجابية التي تقدّمها عن بريطانيا وبين تعزيز التجارة والاقتصاد في المملكة المتحدة. تأتي تصريحاته تلك بعد عامين من منح الحكومة البريطانية
لهيئة الإذاعة تمويلاً إضافياً لتوسيع الخدمة الدولية وللبث بلغات إضافية كالكورية والبنجابية. وكان طموح هول وقتها هو الوصول إلى نصف مليار شخص بحلول العام 2022 وإلى أكثر من مليار شخص نهاية هذا العقد. لم يكن مطروحاً بالنسبة إلى هول أن تعلن الهيئة عن إنهاء بثّها بعشر لغات، وأن تتسبّب في إنهاء خدمة ما يقارب 400 موظّف أي ما يعادل خمس العدد الإجمالي للعاملين فيها. ومن المتوقع أن يكون الفنيون ومهندسو الصوت من بين أولئك الذين سيفقدون وظائفهم إلى جانب الصحافيين ولا يزال مصيرهم مجهولاً. 

وإن كان هول قد قال حينها إن “خدمة البث الأجنبي هي جزء من معركة متنامية وسلاح رئيسي لمواجهة المنافسين الرئيسيين المدعومين من روسيا والصين والذين يرون في الأخبار امتداداً لنفوذ الدولة وأداة لتعطيل الديمقراطية”، فإن هذه الرؤية قد هُزمت اليوم بشكل من الأشكال مع رمزية إنهاء بث جزء أساسي من اللغات الأجنبية ومع التخلّي عن مئات الموظفين ومع أزمة اقتصادية طاحنة تسبّب بها الغزو الروسي على أوكرانيا.

بث الهيئة باللغة العربية سيتوقف في الوقت الذي ما تزال فيه معظم عواصم الربيع العربي عالقة في جهنم الأنظمة الاستبدادية المتحالفة مع غيرها من الديكتاتوريات، بينما ستوقف بثّها باللغة الفارسية في الوقت الذي تهبّ فيه إيران في وجه السياسات التعسّفية والقمع والترهيب.  
وسبق للإذاعة أن شهدت توترات بين إدارتها وبين الحكومة البريطانية، وسبق لرؤساء الحكومات مثل مارغريت تاتشر أن طالبوا بتقليص بعض الخدمات الدولية إن كان لدوافع سياسية أو اقتصادية. فلم تنتظر النسخة العربية طويلاً حتى “تضع النقاط على الحروف” في علاقتها مع وزارة الخارجية، حيث جاء الخبر الثالث في البث الأول كما يلي: “فلسطين. نُفّذ حكم الإعدام شنقاً بعربيّ آخر من عرب فلسطين”، ما دفع وزارة الخارجية للتعبير عن استيائها: “هل يجب على بي بي سي أن تذيع خبر إعدام كل عربي في فلسطين؟”، إلا أن رئيس الهيئة ذلك الحين جيه بي كلارك رفض الإجابة عن هذا السؤال واكتفى بالقول إن “إخفاء الحقيقة لا يلائم سياسة الإذاعة”.

رمزية الخطوة

كان عام 2005 قد شهد إغلاق 8 إذاعات ناطقة باللغات الأوروبية وتحديداً الشرقية منها التي نشطت في مرحلة الحرب الباردة. والخطوة اليوم تأتي أيضاً كردّ على استمرار الحكومة بتجميد رسوم الترخيص حيث إن الخدمة العالمية كانت تحصل تقليدياً على تمويلها مباشرة من الحكومة على اعتبار أنها “أداة للقوة الناعمة” ومنبعاً للأخبار والمعلومات البريطانية بالنسبة لمئات الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم. إلا أن الميزانية شهدت تدابير تقشفية حادة في عهد وزير المالية عام 2010 جورج أوزبورن. وفي الشهر الأول من العام الجاري، سلّمت الحكومة لـ”بي بي سي” واحدة من أقل الحزم المالية سخاء منذ عقود، معلنة في الوقت ذاته عن تجميد رسوم الترخيص المفروضة على أي شخص يشاهد المحتوى المحلي المباشر في المملكة المتحدة، بسعر 159 جنيهاً استرلينياً لكل أسرة لمدة عامين. 

ولا يمكن النظر إلى رمزية هذه الخطوة بمعزل عن رمزية وفاة الملكة إليزابيث الثانية قبل أسابيع قليلة كمن يطوي ثمانية عقود من “القوة الناعمة” التي قدّمتها الإذاعة البريطانية ومن الاستقرار الراسخ الذي قدّمته الملكة. وقد يحلو للمستمع العربي أن يحيل بمرارة قرار وقف البث باللغة العربية إلى قرار أكبر من اللغات وأبعد من “هنا لندن”، ينطوي على وقف التضامن والدعم وعلى التخلّي عن شعوب بأكملها وعلى تغييب حاجتهم لتلك النافذة المفتوحة على ما تبقى من “الأحلام الكبيرة”.   
ستبقى رنة بيغ بين عالقة في الذاكرة، وأيضاً العبارة التي ختم بها هول مقاله قبل عامين: “إن السنوات القليلة القادمة ستحدّد هوية المنتصر في الأخبار، هل تلك التي تسيطر عليها الدولة المستبدة أم تلك العادلة والحرة”. 

العربي الجديد

Share on whatsapp
Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on email
Share on print

رابط مختصر للمادة:

اقرأ أيضاً

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram
Share on email
Email
Share on print
Print

رابط مختصر للمادة: