مؤرخان إسرائيليان يفضحان عمليات تحريف تاريخ المحرقة خدمة لتجارة السلاح

مؤرخان إسرائيليان يفضحان عمليات تحريف تاريخ المحرقة خدمة لتجارة السلاح

البوصلة – تحت عنوان “تشويه تاريخ المحرقة في خدمة تجارة السلاح الدولية” يؤكد باحثان إسرائيليان أن شركة إسرائيلية مختصة بإنتاج وبيع أجهزة التعّقب والسلاح في العالم تشارك في تحريف تاريخ المحرقة وتتعاون مع جهات مارست في الماضي وتمارس في الحاضر انتهاكات بشعة لحقوق الإنسان طمعاً بالربح المادي. ويقول الباحثان، المؤرخ المختص بدراسات المحرقة والإبادة الجماعية دكتور راز سيغل، والمؤرخ المختص بتاريخ اليهود بروفيسور عاموس غولدبيرغ، في مقال مشترك نشرته المجلة الأمريكية “ذي نيشن” قبيل شنّ الحرب الأخيرة على غزة، إن إحدى عمليات التشويه الساخرة (المتنافرة) الأبرز لتاريخ المحرقة قد تمت بيد أولئك المتورطين في تجارة السلاح الدولية والراغبين بذلك كسب شرعية للحرب والعنف الجماعي. ويقول الباحثان الإسرائيليان، اللذان يتصديان في السنوات الأخيرة لمحاولات تحريف تعريف اللاسامية خدمة للمآرب الصهيونية الإسرائيلية، إن المثال الأكثر ترويعا هو ربما زيارة طاغية الفلبين رودريغو دوتريه لمتحف تخليد ضحايا المحرقة (ياد فاشيم) في سبتمبر/أيلول 2018. ويستذكران أنه قبل هذه الزيارة بعامين شبّه دوتريه نفسه بهتلر بشكل إيجابي عندما صرح بنيّته ارتكاب مذبحة بحق كل من اشتبه بهم بالمتاجرة بالمخدرات أو استهلاكها داخل الفلبين. كما يستذكران أنه حتى وصول دوتريه لإسرائيل عام 2018 من أجل اقتناء سلاح من جملة أهداف زيارته، قتلت الفلبين أكثر من عشرة آلاف شخص، كثيرون منهم أبرياء حتى من هذه التهمة. ويضيفان: “مثلهما مثل كل رئيس دولة يزور إسرائيل رسمياً، وملزم بزيارة متحف تخليد ذكرى ضحايا المحرقة كجزء من البروتوكول الدبلوماسي قام دوتريه بزيارة موقع التخليد هذا. لم يكن ممكناً عدم التقاط اللحظة الساخرة العبثية المتمثلة بزيارة مجرم يمجّد هتلر لمتحف تخليد ذكرى ضحايا المحرقة في إطار جولة مشتريات سلاح  قام بها في إسرائيل”.

ويؤكدان أن تحريف تاريخ المحرقة في خدمة تجارة السلاح الإسرائيلية استمر أيضاً بعد مشهد الرعب هذا، وفي العام الماضي دعمت شركة “منظومات إلبيت”، شركة السلاح الأكبر في إسرائيل، نشر كتاب يشوّه المحرقة في بلغاريا بعنوان: “الجيش البلغاري وإنقاذ اليهود البلغاريين 1944-1941″، للكاتب ديمتر ناديلكوف، وهو محاضر في الكلية الأكاديمية العسكرية في بلغاريا، وهو عميد (في الاحتياط) في سلاح الجو البلغاري، وقد نشر كتاباً بـالإنجليزية والبلغارية مع الوسم (اللوغو) الخاص بشركة إلبيت الإسرائيلية على الغلاف الخلفي من الكتاب.

ويشير سيغل وغولدبيرغ أن الكتاب المذكور يضيف مركبّا جديدا لرواية الدولة البلغارية حول إنقاذ يهودها في فترة المحرقة، ويقولان إن هذه الرواية قد تطورت فورا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية بما يشمل الكنيسة الأورثوذوكسية والملك البلغاري بوريس الثالث وعدد من السياسيين كأبطال مركزيين. ويزعم ديمتر ناديلكوف الآن أن الجيش البلغاري لعب دوراً مركزيا في إنقاذ يهود بلغاريا من خلال تجنيد إلزامي للرجال اليهود لكتائب العمل، ووفّر حجة للدولة بضرورة عدم طرد اليهود لمعسكرات الإبادة النازية.

اعتذار

ويؤكد الباحثان سيغل وغولدبيرغ أن البحث التاريخي حول بلغاريا في فترة المحرقة يقوم في العقد الأخير بتقويض رواية إنقاذ بلغاريا لليهود، ويؤكدان أيضا أنه من الواضح اليوم أن بلغاريا في فترة الحرب العالمية الثانية تطلعت لطرد اليهود منها، وأن سلطاتها خططّت ونفذّت وبحماسة وعدوانية فظّة اعتقالات اليهود وسلبها وطردها بشكل جماعي لحوالي 12000 يهودي كانوا تحت الاحتلال البلغاري في غرب “تارقيا”، في شرق مقدونيا وكذلك من فايروت (جنوب-غرب صربيا) نحو معسكرات الإبادة النازية في مارس/آذار 1943. يوضحان أن عملية التجنيد الإلزامي للرجال اليهود لكتائب العمل في الجيش البلغاري بدأ قبل بلورة “الحل النهائي” النازي وكان جزءاً من خطة الدولة البلغارية لسلب ونهب اليهود وحشرهم في هوامش المجتمع كي يبقوا للأبد بدون مستقبل في الدولة. ويتابعان: “أكثر من ذلك فقد خططّت الدولة لطرد اليهود داخل حدودها قبيل الحرب العالمية الثانية إلى بعد خطوط المناطق التي تمّ ضمّها لكن الخطة لم تخرج لحيّز التنفيذ عقب احتجاجات ومعارضة أهلية واسعة من قبل يهود وغير يهود داخل بلغاريا”.

وينبه الباحثان الإسرائيليان سيغل وغولدبيرغ في هذا المضمار إلى أن حكومة بلغاريا قامت حقا بإدارة سياسة قاسية معادية لليهود، بما يشمل تشريعات على طراز “قوانين نيرنبرغ” النازية وأمراً يجبر اليهود بدءاً من آب/أغسطس 1942 بتعليق شارات صفراء على ثيابهم في الحيز العام. ويضيفان: “لذلك لا غرو أن نحو 40000 من بين 48000 يهودي نجوا من المحرقة في بلغاريا غادروها إلى فلسطين بالذات حتى مطلع الخمسينيات، إلى فلسطين الانتدابية التي صارت إسرائيل بعد مايو/أيار 1948.

ويؤكد الباحثان الإسرائيليان أن رواية الدولة البلغارية، وكذلك كتاب ديمتر ناديلكوف، هما تشويه لتاريخ المحرقة، وأن الدراسة خلال العقد الأخير حول بلغاريا في فترة الحرب العالمية الثانية تظهر أن بلغاريا لاحقت وطردت يهودا كجزء من خطة واسعة جدا لتحقيق الحلم العرقي القومي الخاص بـ “بلغاريا الكبرى”، حلم أقصى اليونانيين والرومانيين والمسلمين.

ويوضحان أن هجمة الدولة البلغارية ضد الأقليات العرقية والدينية كانت عنيفة لدرجة أن الكاتب اليهودي البولندي رفائيل لمكين، الذي صكّ مصطلح “جينوسايد (إبادة شعب)، وضغط من أجل إدخاله للميثاق الأممي في ديسمير 1948، وصف، في كتابه واسع الانتشار (حكم المحور في أوروبا المحتلة) عام 1944، ملاحقة اليونانيين في غرب ترقيا تحت الحكم البلغاري كسياسة جينواسايد حقيقي (ص 188).

ويستنتج الباحثان الإسرائيليان سيجل وغولدبيرغ من ذلك أن رواية الدولة البلغارية حول “إنقاذ اليهود” تحريف لتاريخ المحرقة ضمن تحريف أوسع للتاريخ يهدف لمحو عدوانية الدولة البلغارية خلال الحرب العالمية الثانية. ويشدّدان على أن كتاب ديمتر ناديلكوف يزيد خطيئة على جرم: هو لا يوفّر أي دليل على الزعم بأن الجيش البلغاري رغب بإنقاذ يهود، وهو يمحو تورط الجيش البلغاري في العنف الجماعي كمذبحة أيلول/سبتمبر 1941، وفيها قتل 5000 يوناني، وكذلك في بلدة دراما غرب ترقيا الخاضعة للاحتلال البلغاري.

ويشير سيغل وغولدبيرغ إلى أن موشيه موسك، المدير السابق لأرشيف الدولة وشلومو شالتئيل، باحث مختص بالجماعة اليهودية في بلغاريا، قد كشفا، في مقال نشرته صحيفة “هآرتس”، عن تشويه التاريخ في كتاب ديمتر ناديلكوف، وتساءلا كيف يمكن لشركة إسرائيلية محترمة كشركة “منظومات إلبيت” أن تمول كتابه؟ ويقول سيغل وغولدبيرغ إن موسك وشالتئيل قد اعتبرا أن تبرّع الشركة الإسرائيلية المذكورة لنشر الكتاب المذكور هو دعم لتحريف التاريخ وتقزيم مسؤولية بلغاريا عن معاناة وعذابات اليهود، بل طهرّها من دورها الحاسم في إبادة أشقائهم في مناطق ضمّت إليها. ويتابعان: “كذلك جيكي فيدل رئيس جمعية “بيت تراث يهود بلغاريا” في يافا، عقّب هو أيضا بقوة بقوله: “هذا غير معقول وموجع.. أن شركة  “منظومات إلبيت” ساعدت في إصدار كتاب يرعى هذه الرواية الهاذية الواهمة. في تعقيبها نشرت شركة “منظومات إلبيت” توضيحاً قصيراً بالعبرية (فقط بالطبعة المطبوعة من “هآرتس”) أعربت فيه عن اعتذارها لكل من مسّه ذلك”.

بلغاريا تستخدم المحرقة

ويشيران إلى أن بلغاريا خلال الحرب العالمية الثانية كانت واحدة من الدول الأوروبية الأكثر كراهية للمسلمين والرومانيين، وينبّهان إلى أن هذه هي دولة تحدث نائب رئيس حكومتها كارزمير في 2019، وبشكل سافر عن الحاجة لـ “خطة كاملة لحل مشكلة النور/ الغجر” وسط استخدام مصطلح “كاراكاتشانوف” النازي. ويتابع سيغل وغولدبيرغ: “في بلغاريا اليوم يقوم جنود ورجال شرطة بضرب وسلب وتعرية طالبي لجوء أفغان ومهاجرين مع استخدام الكلاب قبل دفعهم للخلف نحو الحدود مع تركيا، وفق تقرير منظمة “هيومان رايتس ووتش”.

ويوضحان أنه هنا على ما يبدو دخلت شركة “منظومات إلبيت” للصورة في بلغاريا، حيث قامت في العقدين الأخيرين ببناء سمعة عالمية لها كشركة رائدة في مجال تطوير وإنتاج وسائل تعقّب وسلاح لتحصين جدران وأسوار حدودية ضد اللاجئين. ويقولان إنه على سبيل المثال قامت بتركيب “روبوتات” مسلحة شبه أوتوماتيكية على الجدار الفاصل بين إسرائيل وفلسطين، وهو جدار اعتبرته تقارير محكمة العدل الدولية جداراً غير شرعي. كما يشيران لقيام “إلبيت” بتركيب عشرات أبراج المراقبة والتعقّب في ولاية إيرزونا في الولايات المتحدة على طول الحدود مع المكسيك، ويؤكدان أن هذه تفاقم عنف الدولة الأمريكية في المناطق الحدودية، وتشكّل انتهاكاً خطيراً لحقوق أبناء وبنات “الشعب المحلي” المقيم، هناك منبهين إلى أن هذه مجرد أمثلة كثيرة من العالم.

كما يستذكر سيغال وغولدبيرغ أن حكومة بلغاريا ألغت في 2007 اتفاقا مع شركة “منظومات إلبيت” لتزويد مروحيات عسكرية ويرجحان أن الشركة الآن، ومع الجدار الطويل بين بلغاريا وتركيا، تحاول موضعة ذاتها في سوق بيع السلاح داخل بلغاريا، وربما ينبغي فهم دعمها لكتاب تشويه تاريخ المحرقة لديمتر ناديلكوف ضمن هذا المضمار.

ويوضحان أن موسك وشالتئيل قد كتبا أن “منظومات إلبيت” شركة محترمة، لكن واضح أنها محترمة فقط بعيون سلطات الدولة المتورّطة بالعنف الجماعي- سلطات كبلغاريا التي تستخدم أيضا المحرقة من أجل تحريف وطمس عنفها كدولة، والآن يجري ذلك بدعم شركة إسرائيلية. ويخلص الباحثان سيغل وغولدبريغ للقول، في مقالهما المشترك، إن هذه سخرية مروعّة؛ أن تستخدم شركة سلاح إسرائيلية تحريف تاريخ المحرقة من أجل دفع علاقاتها مع دولة عنيفة. ويؤكدان أن هذه الحالة تعكس الأزمة العميقة الخاصة بذكرى المحرقة عالميا، والفشل في تطبيق وعد “ذلك لن يتكّرر أبدا”. ويتابعان: “هذه فرصة للإشارة إلى العلاقات التاريخية والراهنة بين تشويه تاريخ المحرقة، العنصرية وكراهية الغريب- وهذا من شأنه مساعدتنا في النضال ضد العنف الجماعي الذي تتيحه شركة “منظومات إلبيت” في عملها.

على الفلسطينيين التنبّه لهذا الخطر

ورداً على سؤال “القدس العربي” يوضح بروفيسور عاموس غولدبيرغ، المشارك في كتابة المقال أعلاه، أن حادثة شركة “إلبيت” في بلغاريا هي مجرد مثال لطريقة تحول ذكرى المحرقة تدريجيا من ذكرى تقدمية داعمة لأفكار تحررية، كالمساواة، إلى ذكرى رجعية تخدم أهدافاً عسكرية قومجية وكراهية الأجانب. ويقول غولدبيرغ إنه يمكن مشاهدة إسرائيل تتجاهل تجليات لاسامية حقيقية لدى جهات تناصرها (إسرائيل) وتدعم صناعاتها العسكرية، وفي المقابل تقوم بوصم كل نقد ضدها باللاسامية وبشكل ساخر. ويتابع المؤرخ اليهودي: “المشكلة أن هذه الحملة نافعة جدا، ومن المهم جداً أن يكون الفلسطينيون واعين لذلك”.

السياق الصحيح

 وردا على سؤال “القدس العربي” حول السياق الذي ينبغي أن يقرأ فيه المقال أعلاه يوضح المحاضر الفلسطيني في فلسفة القانون رائف زريق أن إسرائيل الرسمية وغير الرسمية تعود لتثبت شرعيتها من خلال توظيف انتقائي جدا لذكرى الكارثة. منبها إلى أنه من ناحية فإن إسرائيل تبدي تسامحا كبيرا مع الكثير من القوى اليمينية الأوروبية، والتي يمكن بحق وحقيقة وصفها بأنها تتبنى مواقف عنصرية ومعادية للسامية ما دامت هذه الدول والقوى تدعم إسرائيل في المحافل الدولية. وينبّه زريق أيضاً إلى أنه في المقابل تسعى إسرائيل بشكل حثيث ومحموم لدمغ ووصم القوى اليسارية التي تؤيد حقوق الشعب الفلسطيني بأنها قوى معادية للسامية لمجرد وقوفها الواضح لصالح الحق الفلسطيني وتعرية السياسات العنصرية الإسرائيلية. ويخلص زريق للقول: “كل هذا يثبت أن ما يهم إسرائيل أولاً وأخيراً هو أن تحظى بدعم دولي لمشاريعها التوسعية الاستيطانية، قبل كل شيء، وليس بالضرورة الدفاع عن ضحايا اللاسامية من قبل اليمين العنصري الفاشي الجديد في أمريكا وأوروبا، ولا حتى الدفاع عن ذكرى ضحايا المحرقة”.

القدس العربي

Share on whatsapp
Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on email
Share on print

رابط مختصر للمادة:

اقرأ أيضاً

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram
Share on email
Email
Share on print
Print

رابط مختصر للمادة: