مسجد السنة في الرباط.. رابع أكبر مساجد المغرب وشاهد على تاريخها

مسجد السنة في الرباط.. رابع أكبر مساجد المغرب وشاهد على تاريخها

البوصلة – في العقد الثامن من عمره، يبتسم الحاج علي، وتنفرج أسارير وجهه وهو يعبر عن ارتباطه بمسجد السنة بالعاصمة الرباط “بمجرد أن أدخل هذا الفضاء ينشرح صدري”، يقول وهو يشير بنظرة غامرة وكف مبسوطة لفناء واسع مفتوح على السماء، ويسمى صحن الجامع، الذي كانت فسيفساؤه الخضراء اللامعة تتلألأ تحت أشعة شمس ربيع معتدلة.

جامع السنة رابع أكبر مساجد المغرب، وهو مسجد علوي من القرن 18، هُجر 20 عاما، ونُقل سقفه، وأُعيد ترميمه وتحويل صومعته، ليغدو واحدا من المعالم العمرانية المميزة للعاصمة الرباط، فما قصته؟

صحن مسجد السنة فضاء جميل مفتوح وتظهر واحدة من النافورات وأسقف القرميد الخضراء
صحن مسجد السنة فضاء جميل مفتوح وتظهر واحدة من النافورات وأسقف القرميد الخضراء (الجزيرة)

موقع مميز

كواسطة العقد يملأ مسجد السنة تقاطع شارع محمد الخامس، الشارع الرئيس للعاصمة حيث مبنى البرلمان، وشارع الحسن الأول، بالقرب من القصر الملكي، بمحاذاة سور تواركة.

خلفه الحي الإداري حيث تتجمع مقرات أهم الوزارات وكبرى المؤسسات الإدارية والثقافية كمقر الإذاعة الوطنية، وغير بعيد منه متحف الفن المعاصر ومتحف التاريخ القديم، ما يجعل أذانه نداء للنفير نحوه، وأغلب رواده موظفون ببدل رسمية وربطات عنق، ويوم الجمعة يحرص غالبيتهم على ارتداء الجلباب التقليدي و”البلغة”، رغم دوام العمل.

وتبلغ مساحة مسجد السنة 5565 مترا مربعا، ما يجعله رابع أكبر مسجد بالمملكة، وثاني أكبر مسجد بالعاصمة بعد حسان، وفيه 6 أبواب.

من منتصف شارع محمد الخامس تظهر صومعة مسجد السنة في محوره
من منتصف شارع محمد الخامس تظهر صومعة مسجد السنة في محوره (الجزيرة)

عمارة تفاعلية

من الخارج يلمع بابه النحاسي، وهو ذو زخارف جميلة، وأسقف من قرميد أخضر، وصومعة رباعية متشابهة الأوجه، ويقول عنها الباحث في التاريخ هشام لحرش، للجزيرة نت، “شكل الصوامع مستوحى من شكل الكعبة الذي يرمز لِلاتجاهات الأربع شمال جنوب شرق غرب، على غرار المسجد الأموي وصوامع حسان وإشبيلية والكُتُبِية”، وتتكون الصومعة من البدن والفحل أو المئذنة الصغيرة والجامور المتكون من 3 تفافيح (كرات) والتي ترمز للشمس والأرض والقمر.

وهي صومعة رشيقة تحترم المعادلة الهندسية الذهبية بحيث يكون القُطر خُمس الطول، وفق لحرش.

وخارج المسجد ساحة عمومية تمتلئ هي الأخرى بالمصلين خلال صلاة الجمعة والتراويح. وفي مدخله الرئيسي، يستقبلك بهو مواز للقبلة، كانت فيه غرف لإيواء طلبة العلم في وقت سابق، وصحن مربع الشكل جميل الأرضية.

وقبل أن تجتاز الصحن نحو باب المسجد الداخلي المغطى بالجبس المنقوش، تستوقفك نافورتان رخاميتان واحدة يسارا وأخرى يمينا مغطاة بقباب خشبية منقوشة.

ومن مدخل باب قاعة الصلاة يبدو بلاط المحراب عبر مدخل متسع بسقف خشبي مستطيل تتدلى منه ثريات كبيرة، وعلى جنباته حنايا وأقواس. من داخل المسجد ويوضح لنا الباحث في تاريخ الرباط هشام لحرش أن الممرات المستطيلة الطويلة الموازية للمحراب، تسمى الأسكوب، ويوجد منها 4 أساكيب، وسقفها الخشبي المستطيل يسمى “برشلة”، والمساحات المسقوفة العمودية تسمى “بلاطا” ويوجد منها 13 بلاطا أوسطها بلاط المحراب.

فيما الأقواس بينها من الجبس المنقوش وسواري من الفسيفساء ذات البريق المعدني (المصنوعة من الخزف وطلاؤها من المعدن)، ويضيف هشام لحرش أن السقف الخشبي المستطيل ذي الروابط سقف “جلموني” (هرمي) مستوحى من العمارة الأوروبية، ما يجعل عمارة مسجد السنة تفاعلية تختزن العديد من الصفات والحقب التاريخية.

بساحة المسجد نافورتين بالفسيفساء والزليج والرخام
في ساحة المسجد نافورتان مزينتان بالفسيفساء والزليج والرخام (الجزيرة)

مسجد ملوكي علوي

عايش الحاج علي -وهو متطوع بعد تقاعده لأكثر من 20 عاما لخدمة المسجد والإشراف على المصاحف- بعضا من التغيير الذي طرأ على المسجد، ويصفه بمسجد الملوك، ويتذكر كيف كانت ساحة المسجد الحالية أشجارا وبساتين تمر عبرها ساقية مياه.

وأسس مسجد السنة السلطان العَلوي محمد بن عبد الله في جمادى 1199هـ (مارس/آذار 1785م)، وجاء في مجلة دعوة الحق المتخصصة أن السلطان محمد بن عبد الله أنفق على المسجد أموالا طائلة.

ويقول هشام لحرش في حديثه مع الجزيرة نت، حين تولى السلطان محمد بن عبد الله المُلك سنة 1755، دخل الرباط وبنى بها الدار الملوكية وتسمى أيضا الدار السلطانية في مجال كان يسمى أكدال؛ أي الحدائق والبساتين.

ويضيف أن محمد بن عبد الله بنى مسجد السنة ليكون مسجدا جامعا يصلي فيه السلطان، على خلاف من كان قبله حيث كان السلاطين العلويين حين زيارتهم للرباط يقيمون في الدار الأميرية بِالأوداية ويصلون بمسجد الأوداية.

ويفيد لحرش أن المسجد شهد استقبال السفير التركي إسماعيل أفندي (سفير السلطان عبد الحميد الأول).

اسقف خشبية منقوشة بها رباطات
أسقف خشبية منقوشة فيها رباطات (الجزيرة)

هُجر ونُقل سقفه نحو مراكش

بعد وفاة السلطان محمد بن عبد الله، ووفق مصادر تاريخية متطابقة فقد هجر المسجد 20 سنة، لبعده عن المدينة وقلة السكان حوله، مما حدا بالسلطان مولاي سليمان إلى نقل أخشاب سطوحه لتسقيف جامع علي بن يوسف بمراكش، ورممه فيما بعد السلطان محمد بن عبد الرحمن.

والداخل لمسجد السنة يجد ببابه لوحة رخامية تقدم ملخصا لتاريخه وأهم مراحله.

تقول اللوحة “… رممه السلطان محمد بن عبد الرحمن بتجديد مسجد السنة الذي أصبحت تقام به الصلوات الخمس بانتظام مع صلاة الجمعة، وذلك بعد تعمير تواركة وإقامة دار المخزن، ولم يغير في التخطيط الأصلي للمسجد، بل أضاف جناحا وبابا جديدا خلف المقصورة ومحلا للوضوء قرب الصومعة، وفي سنة 1325 هجرية الموافق لعام 1907 ميلادية، قام السلطان عبد العزيز بترميم المسجد وزاد فيه مخدعا مستطيلا وراء المحراب..”.

ممرات موازية لاتجاه القبلة يوجد أربعة منها بمسجد السنة
ممرات موازية لاتجاه القبلة يوجد 4 منها بمسجد السنة (الجزيرة)

تحريك الصومعة

في سنة 1969م، أمر الملك الحسن الثاني بترميم المسجد وتجديده، ونقل منارته (صومعته) من الطرف الشمالي إلى الطرف الجنوبي للمسجد، هكذا أصبحت الصومعة الجديدة في هيكلها الضخم يراها الناظر في محور هندسي محكم على أكبر شارع في العاصمة وهو شارع محمد الخامس.

يقول هشام لحرش، إن مسجد السنة جدد هندسته المعمارية الملك الحسن الثاني، بالإضافة إلى أن نقل الصومعة أعاد الاعتبار للهندسة الموحدية، وجعل “البرشلة” متجهة نحو المحراب أو ما يسمى البلاط الأوسط أو بلاط المحراب، في حين كان باقي أجزاء المسجد العلوية كلها “أساكيب” و”برشلات” موازية للقبلة.

ويضيف لحرش أن مسجد السنة يمزج بين الخصائص المعمارية للمساجد الموحدية والعلوية.

بعد الساحة الداخلية مدخل قاعة الصلاة مزين بالجبس المنقوش والخشب والفسيفساء
مدخل قاعة الصلاة مزين بالجبس المنقوش والخشب والفسيفساء (الجزيرة)

مكانة جمالية وعلمية

يعتبر جامع السنة من أجمل المساجد، ويجمع بين الفخامة والشساعة (الاتساع) والبساطة والنظافة وجمالية المعمار وجودة السجاد وبراعة الصانع التقليدي، والاستدامة حيث يضاء جزء منه بالطاقة الخضراء.

وقد احتضن مسجد السنة الكراسي العلمية، وشهد إلقاء دروس دينية من علماء ضيوف المغرب، وتحيي فيه الأميرات ذكرى وفاة الملك محمد الخامس في رمضان من كل عام.

ودعنا الحاج علي، وهو يقول وكله شوق لاستقبال وفود المصلين “عندما أغلق المسجد بسبب الجائحة غم على قلبي، وشوقي يعظم مع رمضان لاحتضان المسجد للتراويح”.

الجزيرة نت

Share on whatsapp
Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on email
Share on print

رابط مختصر للمادة:

اقرأ أيضاً

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram
Share on email
Email
Share on print
Print

رابط مختصر للمادة: