حسن أبو هنية
Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on email
Email
Share on telegram
Telegram

رابط مختصر للمادة:

معنى الحرب في زمن “كورونا”

حسن أبو هنية
Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on email
Share on telegram

رابط مختصر للمادة:

تدعي الحكومات في كافة أنحاء العالم بأنّها تخوض حربا ضد فيروس كورونا، وتتجاوز معظم الحكومات خطاب الاستعارة اللفظية لمصطلح الحرب وتقحمه في مجال نظام الحقيقة، لكننا ندرك أن الكفاح من أجل القضاء على فيروس كورونا ليس حربا بين البلدان، وإنما هو حالة طوارئ عالمية للصحة العامة، وبهذا يخفي استخدام مصطلح الحرب حالة عجز الحكومات عن توفير الخدمات الصحية للمواطنين، إلى حد العجز عن صنع وتوفير الكمامات للأطباء والممرضين، كما يخفي عجزها عن تأمين الرفاه والمساواة والعدالة باستعارة مصطلح الحرب في شتى ميادين الإخفاق والفشل، كما هو الحال مع زعم “الحرب على الفقر” أو “الحرب على المخدرات” وغيرها.

ويهدف استخدام المسؤولين لاستعارات الحرب إلى جعل الناس يشعرون بحالة من الهول والفزع لتبرير إجراءات الطوارئ، للتضحية بالحرية والديمقراطية، وإدامة الاستبداد.

وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترمب نفسه بأنه “رئيس في زمن الحرب”، وقال إن فيروس كورونا المستجد “عدو غير مرئي”. وحذر مدير مركز السيطرة على الأمراض السابق من “حرب طويلة قادمة”. وقال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون: “يجب أن نتصرّف مثل أي حكومة في زمن الحرب”. ووصف الرئيس الصيني شي جين بينغ جهود بلاده في مواجهة الفيروس بـ”حرب الشعب”. وقال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش نحن في حالة حرب مع الفيروس.

وقد استخدم مصطلح الحرب للحديث عن مواجهة وباء كورونا؛ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل؟ بل إن إحدى الصحف الصينية تحدثت عن سيناريو “الحرب العالمية الثالثة”، في وصف الإجراءات التي اعتمدتها جل دول العالم لمحاربة الفيروس. وقد تجاوز الأمر الاستعارة الوصفية لدى بعض زعماء العالم الثالث، فقد ذهب الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي، الذي استخدم منذ فترة طويلة لغة الحرب، إلى أبعد من ذلك، حيث نصح الجيش والشرطة بأنّه إذا أصبح منتهكي الحجر الصحي “جامحين يقاومونك ويعرّضون حياتك للخطر، فقم بإطلاق النار عليهم واقتلهم!”.

يبدو المشهد العالمي وكأن ثمة حربا حقيقية، مع تواتر إعلان حالة الطوارئ، وصور الشوارع الخالية، ووضعية العزلة السكانية. لكن الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه يذكرنا ببداهة معنى الحرب، حين يقول: “لسنا في حالة حرب أو أنها تبدو حربا وهمية. إن استخدام المصطلح من قبل ماكرون في ما يتعلق بوباء كورونا لا يتناسب مع الواقع. تذكروا الحرب العظمى 1914-1918: أكثر من 20 ألف قتيل في اليوم الأول. لحسن الحظ، نحن بعيدون جدا منها. لكن إذا استمرت هذه الأزمة، مع تقليص نقل البضائع على المستوى الدولي، يمكننا أن نتوقع عودة التقنين، هنا ينتهي التشابه. نحن لسنا في نمط الحرب نفسه”.

وبالنسبة إلى الفيلسوف الإيطالي جورجيو اغامبن، فإن حرب كورونا لها مقاربة أخرى أدق، حيث تحدث عن “حرب أهلية” ما دام العدو في الداخل، ينفذ من راحة اليد وريق الفم وليس من الخارج. لقد بات الهدف الأقصى للدول والحكومات، إنقاذ حياة الإنسان في وضعها البيولوجي الضيق الأدنى (الحياة العارية حسب عبارة اغامبن)، مع التضحية بكل مكاسب المدنية الحديثة من حقوق سياسية واقتصادية، بما يعني أن الحالة الاستثنائية أصبحت الأفق الطبيعي للسياسات العمومية حتى في الديمقراطيات العريقة.

في مقاله المعنون بـ”التحول إلى اقتصاد الحرب في زمن كورونا؛ سيغير العالم”، يتساءل الكاتب نيكولاس مالدير عن فعالية وفائدة استدعاء “اقتصاد الحرب” كنموذج في معركة البشرية ضد فيروس كوفيد-19، مشيرا إلى مجموعة متنوعة من المصطلحات التي تعبّر عن معنى ذلك: كالإنتاجية، والتضحية، والتضامن، والاستجابة السريعة. وفي ضوء الدروس التي يقدمها تاريخ اقتصاد الحرب في القرن العشرين، يدعو الكاتب الحكومات للكف عن مجرد استخدام خطاب الحرب.

إنّ فقدان الأحبة والانفصال عنهم، والخوف والقلق اللّذين يدمّران العديد من الحيوات، ليس فرصة لتخيّل البطولة في المعركة، حسب الكاتب والأديب الهندي بانكاج ميشرا. فالوباء (في المقام الأول) حالة طوارئ عالميةٍ للصحّة العامّة؛ لربما تم خلقها بسبب أنظمة الرعاية الاجتماعية المهملة وقليلة التمويل منذ فترة طويلة مثلما خلقها فيروس شديد العدوى.

مصطلحات القتل أو الموت هذه أكثر من مبالغة خطابية عرضية، تدعو العديد من الحكومات بشكل رمزي ولكن عن عمد، في وقت الخوف وعدم اليقين هذا، إلى الحشد الشعبي العام على أسس عسكرية، بالإضافة إلى التعبئة الاقتصاديّة والعسكريّة. تشجّع تدابير الحرب عادة على درجة عالية من التّوافق السياسي والاجتماعي والفكري. الفكرة العامة هي أنّه في مواجهة التحدي الوجودي من عدو شرير، يجب أن يتوقف انتقاد الحكومة.

جادل ديفيد رانسيمان، أستاذ العلوم السياسية بجامعة كامبريدج، بأن انتشار وباء كورونا قد أزاح ستار الديمقراطية عن الدولة الحديثة، وكشف عن وجه السياسية الحقيقي، وهو الهيمنة وسلطة الإنفاذ والقسر، وأن فكرة هوبز عن الدولة ككيان يملك الحياة والموت (ويقر الشعب لها بتلك السلطة حفاظا على الصالح العام) باتت ماثلة أمامنا الآن في ظل الحجر والعزل، بل ونزول الشرطة والجيش إلى الشوارع في بلدان كثيرة لفرض النظام، وتغريم المخالف أو حبسه باعتباره يمثل خطرا على المجموع.

إن الاستعارات الشائعة لمصطلح الحرب واستعماله في جهود إيقاف الفيروس التاجي، لا تعدو عن كونها بلاغية. فحسب الدكتورة لينا وين، أستاذة السياسات الصحية والإدارة في كلية ميلكين للصحة العامة بجامعة جورج واشنطن، “يفهم الناس ما تعنيه الحرب وما تعنيه نتائج الحرب من حيث الألم والخسارة والموت. إنهم يفهمون التضحيات التي يجب أن تحدث خلال زمن الحرب، ويفهمون التعبئة الهائلة للموارد المطلوبة في الحرب”.

ويمكن أن تساعد الاستعارات الحربية في توعية الجمهور وتحفيزه، لكنها قد تضلل أيضا صانعي السياسات. ويقول الدكتور لاري بريليانت، عالم الأوبئة الذي ساعد في القضاء على الجدري: “عندما تكون في الحرب، تقتل الناس ولديك عدو. أتفهم الحاجة إلى تحويل الفيروس إلى عدو، لكن هناك آثارا سلبية لاستخدام هذه الكلمة، فعندما تكون في حرب، الشيء الوحيد الذي تفعله هو الحرب، لكن لدينا الكثير من الأشياء الأخرى التي علينا القيام بها”.

في سياق “حرب كورونا”، يوشك مصطلح الحرب على فقدان دلالته، إذ تنطوي الحرب حسب كارل فون كلاوزفيتز على هدف أساسي يقوم على الهيمنة على العنف، وعقلنته بقراءة ريمون آرون. فالوصفات التكتيكية التي يقدمها تقوم على قاعدة أخلاقية ضمنية، وهي أن الحرب عبارة عن علم يقوم على منطق وعقل معين. فالعقل المخصوص يجعل في نهاية المطاف السياسة هي المهيمنة على الحرب، لكن منطق الحروب الجديدة التي تدور رحاها اليوم تجاوزت الوظيفة الإنتاجية للحروب الكلاسيكية. فلم يعد هدف الحرب أن تصنع واقعا سياسيا، ولا السياسة أن تضع حدّا للحروب القائمة كما اعتقد كلاوزفيتز، حيث بات هدف الحرب هو الحرب ذاتها، إذ يجب أن تكون هناك حروب حتى تظل السياسات قائمة وفاعلة. ليست السياسات هي التي تبرر الحرب اليوم، بل بالعكس، الحروب هي التي تبرر السياسات وتمنحها نمطا من “المعقولية”.

كان ميشيل فوكو قد تنبه إلى تحولات معنى الحرب والسياسة، واستخلص من مقولة كلاوزفيتز الشهيرة “السياسة امتداد للحرب بوسائل أخرى” معاني عدة؛ فقد كشف أن علاقة السلطة السياسية بالمجتمع، علاقة ميكافيلية، كعلاقة الصيَّاد الماكر بالفريسة، لا ينحني إلا ليصطادها، علاقة القوي بالضعيف. ولديمومة السلطة، عليها إدامة هذه القوة باستمرار، في عملية إعادة تثبيت، وذلك في حرب غير مرئية، غير مُفكَّر بها علانية، مسكوت عنها، فلا يوجد سلام حقيقي، وحالة السِّلم التي تعيشها بعض المجتمعات، هي حالة سِلم كاذب ومزيَّف.

وللحرب كلمتها النهائية بصيغة قرار، فالسلطة منذ نشأتها تخوض حربا ضدَّ الأخطار الداخلية والخارجية. فهي تُمارس قمعا في الداخل، بحجة التهديدات الخارجية الخطيرة وشيكة الوقوع. وتمارس حروبا خارجية، هربا من أزمات داخليَّة، وهذه الحرب المستمرة تلزمها قوة دائمة، وأنظمة مراقبة وتجسس، إذا تطورت الأمور. إذ تمارس السلطة قمعا غير مرئيّ ضدَّ الأخطار التي تهدِّد المجتمع والنظام العام، حيث تمَّ إنشاء مؤسسات انضباطية، وذلك لتتمكن السلطة من ممارسة دورها في تشديد الرقابة.

خلاصة القول أن زعم الحكومات في كافة أنحاء العالم بأنّها تخوض حربا ضد فيروس كورونا، يهدف إلى خلق حالة من الخوف والهول والفزع لتبرير إجراءات الطوارئ، للتضحية بالحرية والديمقراطية، وترسيخ الظلم واللامساواة وغياب العدالة، وديمومة الاستبداد، ويخفي فساد وعجز النظام الرأسمالي المتأصل، وفقدان الحكومات النيوليبرالية الرغبة والقدرة على توفير الخدمات الصحية للمواطنين.

وتشير الاستعارة البلاغية لمصطلح الحرب إلى تعويض حالة الإخفاق والفشل. فاستعارة مصطلح الحرب في سياق الإرهاب والفقر وصولا إلى كورونا، تجسد حالة الحرب الملازمة لبنية الرأسمالية والسياسات النيوليبرالية. ويتضاعف البؤس في العالم الثالثي والعربي السلطوي، في الحرب الزائفة على فيروس كورونا، حسب بانكاج ميشرا، ذلك أن الاستيقاظ المتأخّر للجائحة من قبل القادة المستبدّين أو العقول الاستبداديّة قد حوّله إلى فرصة لدعم سلطتهم وإخفاء عدم اكتراثهم المذهل. إنّ الفشل في الرؤية عبر ضبابهم الحربي المصنّع (كما يفعل الكثير في وسائل الإعلام) لا يمكن له إلّا أن يزيد من تعريض الصحة الأخلاقية والسياسية طويلة الأجل لمجتمعاتهم للخطر.

(عربي21)

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on email
Share on telegram

رابط مختصر للمادة:

Related Posts