هل تعلم.. الصراع من أجل البقاء (شاهد)

هل تعلم.. الصراع من أجل البقاء (شاهد)

               يتحدث الدكتور عبدالحميد القضاة رحمه الله في هذه الحلقة من سلسلة حلقات هل تعلم بأن الله جلت قدرته قد وهب الحياة لكل مخلوق حي بسر وكيفية لا يعلمها إلا هو؟، وهل تعلم أنه أودع معها سراً آخر موازياً لـها تماماً، هو غريزة حب البقاء؟، وهل تعلم أنه لا فرق في ذلك بين كبير أو صغير،  مميز أو غير مميز؟، وهل تعلم أنه زود كل مخلوق بالوسائل والطرق والأدوات والحيل الغريبة والعجيبة ليُدافع بها عن نفسه، ويتقي شر خصومه، ويُحافظ على حياته؟، والميكروبات رغم صغرها، إلا أنها أيضا مخلوقات تحب الحياة كغيرها!،وتجيد مهارات الدفاع عن نفسها ، وتُصارع لأجل بقائها، بطرق وحيل وأساليب شتى، وبذلك ضمنت استمرارية وجودها، وانتشارها على مدى عشرات الملايين من السنين،حتى لاتختل موازين التعايش البيئية،لأن الله تبارك وتعالى خلق كل شيء بقدر وهدف،”رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ”.

          فمن الميكروبات ما يفرز مادة لزجة هلامية، لتشكل طبقة تلف بها نفسها، دون أن تعيق حركتها اسمها كبسولة، تقوم بعدة خدمات للخلية، منها أنها مستودع غذائي يمكن الاستفادة منه وقت الحاجة، تماما كالسنام عند الجمل، ومنها تلقي الصدمات كخط دفاعي أول عن الميكروب، وحمايتها من الأحماض، التي يمكن أن تتعرض لها الخلية. ولكن في بعض البكتيريا أهم دور لهذه الكبسولة هو حمايتها من عملية البلعمة، أي الابتلاع من قبل الخلايا البالعة التابعة لقوات جهاز المناعة في جسم الإنسان ، فالكبسولة تجعل البكتيريا ملساء ، يصعب الإمساك بها، فإذا ما أرادت خلية بالعة أن تلتقمها فإنها تفلت منها، لنعومة ملمسها ، وتهرب بعيدا عن الخطر، لتحمي نفسها، وتستمر في حياتها.

         ومن الميكروبات ما يعمل عملا مختلفاً، ليتهرب من قوات جهاز المناعة عند الإنسان، التي هي بالمرصاد للجراثيم، ، فمثلاً جرثومة مرض السفلس ، بكتيريا لولبية الشكل، تتحرك كالأفعى، إذا دخلت إلى ضحية جديدة، فإنها تجتهد أن تسلك طرقاً تقل فيها نقاط المراقبة والتفتيش، كالطيران المنخفض تماما، الذي لا يلتقطه الرادار، ثم تحاول أن تتحايل على جهاز المناعة، فتكسو نفسها بطبقة خارجية، مكونة من بروتينات مأخوذة من جسم الشخص نفسه، فإذا مرت بنقطة تفتيش، فإن منظرها العام، ونوعية كسائها الخارجي مألوف لدى قوات الدفاع، وبالتالي لا تتعرض لها، وذلك لأن قوات المناعة تعتبر كل بروتينات الجسم صديقة، هذه الصورة التي تتبعها بعض الجراثيم في جسم الإنسان، للتخفي والتحايل على جهاز المناعة، أشبه ما تكون بصورة رجل ينتحل شخصية عسكرية، ويدخل إلى منطقة ممنوعة عليه، فيُسمح لـه بالدخول؛ لأنه قد ارتدى الملابس العسكرية المألوفة نفسها، فأصبح مثل غيره من الجنود.

                 هناك أنواع من الميكروبات، خاصة البكتيريا من عائلة الباسيلس والكلوستريدا تتجنب غائلة الجوع والقحط وعاديات الزمان، لتحافظ على وجودها واستمرارها، بأن تخفف من عملياتها الحيوية تدريجياً، وتُحيط نسخةً من المادة الوراثية بكميةٍ مركزة من المواد الأخرى الأساسية في مكان داخل الخلية، وتُحيطها بغشاء من طبقتين، ثم بجدار سميك يلُفُّه معطف قوي جداً، ثم يتحرر من الخلية الأصل إلى الخارج، على شكل محفظة بيضوية تسمى (Spore)، لها قدرات عظيمة على مقاومة الحرارة، إذ تستطيع مقاومة الحرارة لمدة تسع عشرة ساعة في الماء الذي يغلي، ومقاومة الجفاف والإشعاعات،وقلة الغذاء، وكذلك مقاومة المواد السامة، وتبقى هكذا لا تنمو ولا تتكاثر، بل تمر في فترة سبات عميق تصل إلى آلاف السنين، فمثلاً المحافظ الجرثومية التي استخرجت من الطين في بحيرة إلك(Elk) في مانيسوتا عادت للحياة بعد سبات دام ( 7500 ) سنة)، وكذلك البكتيريا التي استخرجها الدكتور راول كانو من جامعة ولاية كاليفورنيا بعد سبات دام (30 ) مليون سنة، كما ظهر من دراسة المتحجرات التي وُجدت فيها.

             لم يقف الإنسان مكتوف اليدين أمام هجوم بعض الجراثيم الممرضة، بل اجتهد في استخلاص واستحداث مضادات حيوية لقتلها، والتخلص منها بأقل الآثار الجانبية على المريض، واستعملها لتقف في جبهة جهاز المناعة، ضد الجراثيم الممرضة، للقضاء عليها وشفاء المريض، وبالمقابل لم تقف الميكروبات لحظة واحدة أيضا مكتوفة الأيدي، بل استعملت حيلها ومكرها، بل ودهائها، وصارعت بطرق شتى لتبقى، وتهرب من الأسلحة التي طورها الإنسان للقضاء عليها، وقد نجحت الميكروبات في ذلك أيما نجاح، إذ ظهرت مشكلة عالمية طبية، تتعلق  بمقاومة الجراثيم للأدوية.

    ومن الجراثيم ما يتمتع بحساسية عالية ومَجسّات دقيقة، تُشعرها بإقتراب أعدائها منها، وبالتالي تتصرف بالوقت المناسب، لتجنب نفسها الدمار، فمثلاً بعضها إذا أحس بوجود العلاج يتوقف فوراً عن النمو، كالذي ينوي الصيام، فلا يدخل جوفه شيئاً، لأن بعض الأدوية لا تؤثر إلا أثناء النمو، فعندما تتوقف الجرثومة عن النمو والحركة، تسكن سكون الميت بلا حراك، فلا يدخل فيها العلاج، وبالتالي لا تتضرر، وتبقى هكذا ساكنة حتى يزول أثر العلاج من محيطها، فتعود إلى سيرتها الأولى بعد أن تخطت أزمتها ، هذه بعض الطرق والحيل والأساليب التي تتبعها الميكروبات، لتسلم من القتل وتنجو بحياتها، لأنها كغيرها تحب الحياة، وتصارع لأجل البقاء.

(البوصلة)

Share on whatsapp
Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on email
Share on print

رابط مختصر للمادة:

اقرأ أيضاً

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram
Share on email
Email
Share on print
Print

رابط مختصر للمادة: