“خط حديد الحجاز”.. مشروع أمة رفضه الغرب وكافح لأجله السلطان عبد الحميد

“خط حديد الحجاز”.. مشروع أمة رفضه الغرب وكافح لأجله السلطان عبد الحميد

البوصلة – “امتدّ انتظاره دهراً والحمْل به عمراً، حملَته أمه ثماني سنوات من سنة 1901 إلى سنة 1908، وعاش بعدما وُلد عشر سنين من سنة 1908 إلى سنة 1918، ثم أصابته علّة مزمنة، فلا هو حيّ فيُرجى ولا ميت فيُنسى، الخط ممدود ولكن لا يمشي عليه قطار، والمحطات قائمة ولكن لا يقف عليها مسافر. كانت فيها مواقف الوداع والاستقبال تشهد الآلام والآمال، وكان فيها الناس من كل بلد وكل شعب، فأصبحت لا غادٍ عليها ولا رائح منها، ولا مودّع أسيان (حزين)، ولا مُستقبِل فرحان”.

بهذا المقطع الأدبي البليغ جسّد الأديب الراحل علي الطنطاوي ملحمة إسلامية كانت أعظم إنجازات القرن العشرين، كان العالم الإسلامي ينتظرها على طريق حلم بعْث الوحدة الإسلامية. إنه خط حديد الحجاز الذي أنشأه السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بسواعد وأموال إسلامية تضافر فيها المسلمون من ترك وعرب وعجم، ولكن ليس بعد التمام إلا النقص، تفككت الدولة العثمانية ولحق الخراب بخط الحجاز الحديدي.



في خضم المؤامرات الخارجية والاضطرابات الداخلية وتدهور الاقتصاد وخلوّ الخزانة في الدولة العثمانية كان للسلطان عبد الحميد حلمٌ يتمثل في ربط الحجاز وغيرها من الولايات العربية بالعاصمة إسطنبول، للحفاظ على هذه الدولة مترامية الأطراف التي دب فيها الضعف ووصفها الأوروبيون بالرجل المريض، فأصدر أوامره عام 1908 بإنشاء خط سكة حديد من دمشق إلى المدينة المنورة مروراً بالعديد من المدن العربية على أن يمتد الخط إلى مكة، إلا أن مخاوف شريف مكة على تجارته حالت دون قبوله لهذا الأمر فتوقف الخط إلى حيث المدينة.

أهداف المشروع

تضافرت عدة دوافع لإنجاز هذا المشروع، منها ما هو ديني ومنها ما هو سياسي وعسكري، وكان أبرزها: أن يعد المشروع إحدى مفردات المشروع الأكبر وهو إقامة الجامعة الإسلامية، فيهدف مشروع خط الحجاز إلى ربط الولايات العربية المتباعدة والحفاظ على الوحدة الطبيعية لتلك الولايات وبعث روح الوحدة الإسلامية للصمود أمام التحديات الخارجية، فكان السلطان يعلم أن هذه الفاعليات ستمكِّن العالم الإسلامي من استعادة مكانته في التوازن العالمي الجديد، ويعزز سلطته كخليفة للمسلمين.

ثم تيسير وصول الحجاج والمعتمرين إلى الحرمين، فكانت تصل رحلة الحج إلى شهرين وأكثر تحت وطأة الظروف المناخية القاسية، فضلاً عن التعرُّض لأخطار قطّاع الطرق، ويذكر الدكتور متين هولاكو في كتاب “الخط الحديدي الحجازي المشروع العملاق للسلطان عبد الحميد” أن عدد الحجاج قبل إنشاء خط حديد الحجاز كان لا يتجاوز 80 ألف حاج، فازداد عدد الزائرين للأراضي المقدسة إلى 300 ألف زائر، واختصر المسافة التي كان تقطع في أربعين يوماً وتصل إلى شهرين أو يزيد، إلى ثلاثة أيام فقط.

وكذلك تسهيل مهمة الدفاع عن الدولة العثمانية في أي جبهة تتعرض للاعتداء، إذ يساعد هذا الخط الحديدي على سرعة نقل القوات العثمانية إلى الجبهات وتوزيعها.

إضافة إلى تعزيز سلطة الدولة في غرب الحجاز باستيعاب تلك الولايات التي لا تخضع للدولة بصفة تامة، ودفْع هذه الولايات وغيرها إلى الامتثال للقوانين العسكرية العثمانية التي تقضي بالدفاع المشترك عن دولة الخلافة.

ملحمة الإنجاز

“إنشاء سكة حديد الحجاز هو حلمي القديم”؛ من هذا الحلم انطلق السلطان فأصدر أوامره بإنشاء الخط في مايو/أيار عام 1900، وقرر أن يكون المشروع بأموال إسلامية خالصة فلم يلجأ إلى الاقتراض، وشكَّل هيئة عليا من خيار رجال الدولة على مختلف تخصصاتهم، ترأّسَها عربي وهو عزت باشا العابد من دمشق، فكان السلطان يُقرّب إليه العرب، ولما كانت الميزانية المُخصصة للمشروع من خزانة الدولة (18%) لا تكفي لإنجازه، فقد أمضى السلطان إجراءات لسد النقص حتى لا يلجأ إلى الاقتراض من الدول الأجنبية.

وجّه السلطان نداء للعالم الإسلام بأسره للتبرع من أجل هذا المشروع الذي يكون مِلْكاً للأمة، وبادر هو بنفسه للتبرع من ماله الخاص بمبلغ خمسين ألف ليرة عثمانية، وقرر دفع مئة ألف من صندوق المنافع، وأصدر قراراً بخصم 10% من رواتب الموظفين لصالح المشروع، إضافة إلى إجراءات أخرى منها التبرع بجلود الأضاحي وبيعها لصالح المشروع.

وكانت بحق ملحمة تَشارك فيها المسلمون من شتى البقاع، ابتداء من رجال السلطان وصدره الأعظم الذين بادروا بالتبرعات هم وكبار رجال الدولة وتجّارها وأعيانها.

وأما العرب فقد هبوا للتبرع لهذا المشروع الإسلامي العظيم، فتوالت التبرعات من الموظفين في الولايات العربية، من بيروت ودمشق وحلب وغيرها، وشارك في هذه التبرعات خديوي مصر، وشكلت في مصر لجنة الدعاية للمشروع وجمع التبرعات له برئاسة أحمد باشا المنشاوي، وشاركت الصحافة المصرية بقوة في حملة الدعاية، وأبرزها المنار والرائد المصري، وشكلت لجان في مدن مصر للتبرع، وجمعت جريدة اللواء المصرية برئاسة الزعيم مصطفى كامل وحدها تبرعات بنحو 3000 ليرة عثمانية.

وأما عن المسلمين من غير العرب فيقول الدكتور محمد حرب: “كان مسلمو الهند أكثر مسلمي العالم حماساً وعاطفة وتبرعاً للمشروع، وقد تبرع أمير حيدر آباد بالهند بإنشاء محطة المدينة المنورة في المشروع، كما تبرع شاه إيران بمبلغ 50 ألف ليرة عثمانية”.

موقف أوروبي حاقد

كانت بريطانيا أكثر الدول قلقاً من المشروع، فبعد أن ظنت على إثر الحرب الروسية-العثمانية أن الدولة العلية دخلت مرحلة الانهيار، فوجئت بالمشروع الذي قلب تصوراتها رأساً على عقب، وبدا لها أن العثمانيين يستعيدون نفوذهم في المنطقة، بخاصة أن الدولة العثمانية لن تكون بحاجة إلى قناة السويس التي تسيطر عليها بريطانيا، التي سعت لإفشاله عن طريق منع التبرعات الوافدة من المسلمين بشتى البلاد وبثت أكاذيبها من خلال الجرائد التي تصدرها بمستعمراتها بأن الدولة العثمانية غير قادرة على إتمامه، وأن الأمر لا يعدو أن يكون دعاية لتنهب بها الدولة أموال المسلمين المتبرعين.

ولما كانت الدولة العثمانية تمنح المتبرعين أوسمة، فقد منعتهم بريطانيا تعليقها على صدورهم، كما قدمت بريطانيا اعتراضها على عبور الخط من “معان” الأردنية ووصوله إلى خليج العقبة، وبعد أن تم المشروع عملت على إفشاله بكل قوتها إبان الحرب العالمية الأولى.

ولم يختلف موقف فرنسا كثيراً عن بريطانيا، فعارضت بشدة إنشاء خط بين القدس والعفولة، للحفاظ على نفوذها في سوريا وفلسطين، إلا أن ذلك لم يثنِ الأتراك عن إنجاز هذا المشروع.

اعتراضات حجازية

لاقى المشروع اعتراضات من قِبل بعض سكان البادية الحجازية، ومن قِبل شريف مكة الذي كان يخشى على تجارته التي كانت تقوم على نقل الحجاج على الرواحل، وظن أن سكة حديد الحجاز سوف تقضي على هذه التجارة، إلا أن علماء الشريعة والمثقفين تصدوا لهذه الشائعات والأقاويل، ومنهم محمد عارف الدمشقي إمام الشافعية بالشام الذي جعل يُعدد فوائده لأهل مكة والمسلمين عامة.

فمنها: تكثير عدد الحجاج إلى عشرين ضعفاً أو ثلاثين.

ومنها: أنه يمكِّن الدولة من إرسال ما تحتاج إليه هذه المناطق إذا لزم الأمر، فيصل إليها في أقرب وقت وهو مُصان عن أيدي قطاع الطرق.

ومنها: تسهيل نقل المحاصيل الزراعية على المزارعين في هذه البقاع فلا تفسد، إضافة إلى تقليل سعر أجرة النقل فتزيد أرباحهم.

ومنها: تسهيل إنشاء مكاتب في الأراضي التي يمر بها الخط الحديدي، فمن ثَم تنشط الصناعات لديهم، وهذا يُمكّنهم من الاستغناء عن شراء ما يحتاجون إليه من خارج البلاد.

ومنها: أن هذا الخط سوف يسهل اكتشاف المعادن في تلك الأراضي واستخراج خيراتها، الأمر الذي يترتب عليه ازدهار هذه المناطق وثراء أهلها.

ومنها: تأسيس المدنية والحضارة فيهم، وانتشار المعارف والعلوم بينهم، وتحقيق الأمن لهم ولأبنائهم.

ومنها: استخدام الدولة العثمانية لبعض أفراد هذه المناطق للعمل في المنظومة.

ومنها: التكسب من بيع منتجاتهم وأطعمتهم للركاب في محطات وقوف القطار.

ثم ساق الدمشقي أدلة دامغة على أن عدد الجمال التي يؤجرها بدو الحجاز من ينبع إلى المدينة المنورة للزوار والحجاج سوف يزداد بعد مد السكة الحديدية أضعافاً مضاعفة، وذلك رداً على المخاوف التي أبداها البدو، وبسط ذلك كله في كتابه المعروف بـ”السعادة النامية الأبدية في السكة الحديدية الحجازية”.

المشروع يرى النور

على الرغم من أن افتتاح إنشاء المشروع تم عام 1908م حين وصل إلى آخر خطوطه بالمدينة المنورة، إلا أنه كان يجري تشغيل الخطوط التي أنشئت قبل ذلك، فبدأ الخط بين دمشق ودرعا في سوريا في سبتمبر/أيلول 1900، وأقيمت على إثر ذلك احتفالات رسمية تزامنت مع ذكرى تولي السلطان العرش، ثم ظل الخط يمتد شيئاً فشيئاً مروراً بمحطات أساسية، فمن درعا إلى عمّان، إلى الزرقاء، إلى قطرانة، إلى معان، ثم من ذات الحاج إلى العلا، ثم إلى المدينة، التي انتهى إليها الخط عام 1908م في ظل احتفالات ضخمة بوصول الخط إلى أرض الحرم المدني.

وتُقدر المدن والمراكز السكنية الواقعة على مسار خط الحجاز بنحو خمسين مدينة ومركزاً.

وكان لهذا الخط خطوط أخرى فرعية، ومن خلالها وصل الخط إلى مناطق شرقي المتوسط، فأنشئت على سبيل المثال عام 1908م خطوط فرعية ممتدة بين بيروت ودمشق، وأضيف 168كم لخط حيفا بفلسطين، وبذلك وصل الخط إلى درعا، وبلغ طول الخط في عهد السلطان عبد الحميد 5.792 كم.

جرى تشييد منشآت عديدة ملحقة بهذا المشروع كمحطات استراحات للركاب وأنفاق وجسور، ومد السلطان خطوط برقية على طول خط السكة الحديدية، ما ساعد في إنشاء فروع ومكاتب بريدية بين إسطنبول والمدينة، وقد كانت حركة القطار ومواقفه منظمة حسب أوقات الصلوات الخمس، وخصصت إحدى قاطراته كمسجد متنقل تقام فيه الصلوات وعُين له إمام للصلاة.

ومن الخدمات التي قدمها هذا الخط حمْل الصُّرة السلطانية المعتادة إلى الأراضي المقدسة عن طريق القطار، بعد أن كانت تحمل عن طريق البر ثم البحر.

مصير مؤلم

في تقريره السنوي الأول لعام 1907 رفع السفير البريطاني في عاصمة الدولة العثمانية تقريراً إلى قيادته يقول فيه: “بين حوادث السنوات العشر الأخيرة عناصر بارزة في الموقف السياسي العام، أهمها خطة السلطان الماهرة التي استطاع أن يظهر بها أمام 300 مليون من المسلمين في ثوب الخليفة الذي هو الرئيس الروحي للمسلمين، وأن يقيم لهم البرهان على قوة شعوره الديني ببناء سكة حديد الحجاز”.

فلا عجب أن تسعى بريطانيا لتدمير المشروع، وقد كان لتأليبها بدو الحجاز -عن طريق عميلها “لورنس”- على الدولة العثمانية أثر بالغ في تخريب خطة السكة الحديد، فحرضت رؤساء القبائل العربية على العثمانيين ووعدتهم بالملك حال الإجهاز على الدولة، ففي عام 1916 ثارت القبائل بزعامة الشريف حسين شريف مكة، وشنوا بتوجيه من ضباط الإنجليز وجواسيسهم وأبرزهم لورنس العرب، هجمات على خط سكة حديد الحجاز.

كان هدف بريطانيا الأساسي هو منع نقل الجنود العثمانيين إلى الأراضي الحجازية عبر الخط إبان الحرب العالمية الأولى ثم تعطيله بالكلية، وبعد انتهاء الحرب العالمية وتقسيم الدولة العثمانية انطفأت شمس هذا المشروع الكبير، وصار أثراً بعد عين، وبقيت أطلاله وقضبانه القديمة شاهدة على أعظم إنجازات المسلمين في القرن العشرين، وكأنها بقيت ذكرى يدق ناقوسها على رؤوس الغافلين بضرورة بعث الوحدة الإسلامية من جديد.


TRT عربي

Share on whatsapp
Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on email
Share on print

رابط مختصر للمادة:

اقرأ أيضاً

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram
Share on email
Email
Share on print
Print

رابط مختصر للمادة: