قراءة للانتخابات التشريعية في الجزائر 2021

قراءة للانتخابات التشريعية في الجزائر 2021

عضو المكتب الوطني لحركة البناء الوطني الدكتور سعد سدارة

تعيش الجزائر هذه الأيام على وقع الانتخابات النيابية ممثلة في المجلس الشعبي الوطني، الذي يعد الغرفة السفلى كما تسمى أيضا للبرلمان الجزائري الذي يضم غرفتين، والثانية مجلس الأمة الذي ينتخب ثلثيه من منتخبين محليين (ولائية وبلدية) وثلث يختاره رئيس الجمهورية ويغير كل ثلاث سنوات، أما المجلس الشعبي الوطني “الغرفة السفلى” فينتخب أعضاؤه في اقتراع شعبي عام.
وقد جاءت هذه الانتخابات مبكرة على إثر حل البرلمان الذي لم يكمل عهدته بسبب تداعيات الحراك الشعبي الذي انطلق في 22 فبراير، رافضا للعهدة الخامسة التي كان ينوي الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة الترشح لها، كما رفض أيضا مشروع التمديد الذي طلبه تحت ضغط الرفض الشعبي، لزيادة سنة من الحكم، والتي رفضها أيضا الحراك الشعبي، مما عجل باستقالة بوتفليقة، وتسلم رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح الحكم بالنيابة إلى غاية تنظيم انتخابات رئاسية، والتي أجريت في 12 ديسمبر 2019، وفاز فيها المرشح عبد المجيد تبون.
وقد شارك فيها جزء هام من الطبقة السياسية التي ينتمي بعضها إلى المعارضة وأهمها حركة البناء الوطني بمرشحها عبد القادر بن قرينة، وحزب طلائع الحريات بمرشحه علي بن فليس، وجبهة المستقبل بمرشحها عبد العزيز بلعيد، وقد جاء في المرتبة الثانية عبد القادر بن قرينة، بمليون ونصف من أصوات الناخبين.
ثم تلتها المحطة الثانية الممثلة بالتعديل الدستوري الذي جرى يوم 1 نوفمبر 2020، حيث شهد تطورا نوعيا من حيث المقبلين على المشاركة من الأحزاب السياسية التي كانت مقاطعة للرئاسيات، لتأتي المحطة الثالثة بعد ثمانية أشهر أي في 12 جوان 2021 والممثلة في الانتخابات التشريعية التي شهدت إقبالا كبيرا خصوصا من طرف الشباب والنخب خصوصا على الترشح في قوائم حرة، والتي حفز لها الرئيس وضمن الدعم لها في قانون الانتخابات لكونه رهانا يضمن به تسيير المرحلة القادمة وفق الرؤية التي يراها للجزائر الجديدة، وقد وصلت القوائم الانتخابية في بعض الولايات إلى 70 قائمة بين حزب سياسي وقائمة حرة، كما اختلف تعداد المقاعد الانتخابية بالنظر إلى النسبة السكانية لكل ولاية، وأقلها 5 مقاعد وخصوصا الولايات الجنوبية، وأكثرها 36 مقعد وهي العاصمة.
ويجدر بنا قبل تحليل نتائج انتخابات 2021، أن نقدم مقارنة سريعة بين العهدتين البرلمانيتين 2017 و2021 للوقوف عند أهم المتغيرات التي شهدها البرلمان والتي تعكس في جوانب معينة حجم التحولات التي شهدتها الساحة السياسية بين فترة ماقبل الحراك الشعبي ومابعده، ولأهم الإجراءات والترتيبات التي حاولت السلطة إضفاءها فيما اصطلحت عليه الجزائر الجديدة، وسنركز في هذه المقارنة على:
نسبة الاقبال الشعبي على الاقتراع
حجم مقاعد البرلمان
حجم التمثيل الحزبي، وأهم الأحزاب المتواجدة بالبرلمان
نوعية التمثيل البرلماني: الأحرار، المستوى الجامعي، الشباب، المرأة

الإقبال الشعبي:
حيث لوحظ أن أغلب المصوتين من مناضلي الأحزاب وأنصارها الدائمين، ولهذا كان من الطبيعي أن تفوز الأفالان لكونها أوسع قاعدة نضالية، بينما عزف أغلب الشعب لأسباب متعددة، أهمها يتعلق بالوضع الاقتصادي والمعيشي المتدهور وهي الغالبية من الشعب، حيث زادت نسبة الفقر ومعدلات البطالة وسوء الخدمات، ، وبعضها لكونه رفع سقف المطالبات بالتغيير والتي تحتاج لوقت لتحقيقها، وبعضها لا يزال يشكك في مصداقية العملية الانتخابية، وبعضها لمواقف أحزابها المقاطعة خصوصا في ولايتي تيزي وزو وبجاية “منطقة القبائل”، وبعض آخر غير مهتم بالانتخابات حاله كحال كثير مما تعرفه الانتخابات في دول العالم.

حجم التمثيل الشعبي


مقارنة حول التمثيل الفئوي:

مقارنة حول التمثيل الحزبي والأحرار:

وفي هذا الجدول لم أتطرق في هذه المقارنة لكل الأحزاب التي كانت ممثلة في برلمان 2017 ولم تتواجد بهذا البرلمان الجديد 2012، ماعدا الأحزاب التي كانت لها مقاعد معتبرة (فوق 10 مقاعد) وكان لها تأثير في الساحة السياسية مثل حزب العمال وتجمع أمل الجزائر والحركة الشعبية، لكثرة الأحزاب التي أخذت مقعد أو مقعدين ولا وجود لهما في البرلمان الجديد.


ما الجديد في انتخابات 12 جوان 2021 ؟

قانون الانتخابات الجديد 2021:
جاء قانون الانتخابات الجديد كمحاولة من الرئاسة لإحداث نقلة نوعية في الفعل الانتخابي وإفراز مؤسسات شفافة ونزيهة، والقضاء على مختلف الثغرات التي كانت تمثل مدخلا لذلك، ولعل من أهل التغييرات النوعية هو الانتخاب النسبي المباشر، الذي تتشكل بموجبه قائمة المترشحين على أساس التساوي بين جميع المترشحين في القائمة، بحيث يختار الناخب من المترشحين من يراه مناسبا لإعطاء صوته بعض النظر عن ترتيبه في القائمة، وقد قصدت السلطة بهذا القضاء على الاستقطاب الذي كان يشكله الترتيب في القائمة، والذي كان سببا في تفشي ظاهرة المال الفاسد، كما أنه يرجح فوز الأفضل ممن له قاعدة جماهرية وقبول شعبي، والدافع الثاني من هذا التغيير الطمع في الإقبال الشعبي على الاقتراع في الانتخابات للقضاء على مشكلة عزوف أغلب المواطنين.
وقد خلق هذا التعديل حالة من التنافسية بين المرشحين داخل القائمة الواحدة، مما دفع بأغلب المرشحين للسعي منفردين لجلب أكبر عدد من أصوات الناخبين لصالح مرشح بعينه، بعيدا عن الروح الجماعية والتنسيق المنظم الذي فقدته أغلب القوائم الانتخابية.
كما تميّز هذا القانون في تشديد الإجراءات والعقوبات على أي شكل من أشكال وجود المال المشبوه في العملية الانتخابية، مما شهد تراجعا نسبيا لسطوة بارونات المال الفاسد، لكن هذا لم يمنع من استعماله أثناء الحملة الانتخابية التي راهن البعض في على شراء الذمم لرفع أسهمه في صناديق الاقتراع، بالإضافة إلى أن هذه الإجراءات التشديدية استعملت بتعسف من طرف بعض الجهات المحلية التي استغلتها بعض دوائر النفوذ لإقصاء بعض النزهاء في قوائم حزبية وحرة بتهم واهية متعلقة بالعلاقة بالمال المشبوه، دون وجود أدلة حقيقية تدين هؤلاء، مما فسر على أنها إرادة من السلطة لتزوير مسبق للانتخابات.
كما منع هذا القانون الانتخابي ترشح من كانت له عهدتين برلمانيتين سابقتين، مما أبعد كثيرا ممن قضوا في البرلمان عهدات كثيرة وكانوا مظهرا من مظاهر الفساد،.
كما أن نسب المحاصصة التي خص بها قانون الانتخابات الشباب والمرأة، وإن كانت من حيث الرؤية جيدة إلا أنها من حيث التنفيذ أثرت على التواجد الكمي للمرأة في البرلمان لكون الشعب في عمومه لا يتجه بشكل كبير لانتخاب المرأة، وكون المرأة لاتزال بعيدة عن فرض نفسها كفاعل سياسي أو إصلاحي يراهن عليها لتلقى قبولا شعبيا يؤهلها للانتخاب عليها، مما يفرض رؤية جديدة تبنى على مقاربة الكم الداعم للكيف.

خارطة الأحزاب في البرلمان الجديد:
شهدت هذه الانتخابات عودة الاحزاب التقليدية في الجزائر وعلى رأسها حزب جبهة التحرير الوطني وحزب التجمع الوطني الديمقراطي وحركة مجتمع السلم، وكلا الحزبين يشهد حالة من الضغوطات الشعبية الرافضة لوجوده، ويشهد ايضا حالة من وجود قياداته السابقة في السجون بتهمه الفساد، وتهمة الانضواء مع العصابة وسرقة المال العام واستغلال المنصب للثراء غير الشرعي الى غير ذلك من التهم، ومع ذلك عادت هذه الاحزاب الى المشهد الانتخابي والمشهد السياسي بعد تغييرات بسيطة في مكوناتها القيادية، وبسبب العزوف الشعبي الكبير، وربما لوجود المئات من رؤساء البلديات التابعين لهما، رغم ذلك فقد تراجعا في عدد مقاعدهما بنحو 106 مقعد.
ينضاف إليهما في نفس التيار الوطني حزب المستقبل الذي ينتمي تقليديا إلى المنظمات الجمعوية للأفلان سابقا، على 48 مقعدا بزيادة 34 مقعد على البرلمان السابق، وجاء في المرتبة الرابعة حزبيا
كما زاد رصيد الأحزاب المنتسبة لمدرسة الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله “حمس والبناء”، حيث حصلت مجتمعة على 104 مقعد، وبالمقابل تراجعت الأحزاب التي كانت قياداتها موالية للشيخ عبد الله جاب الله، حيث لم تتحصل “النهضة والإصلاح” على أي مقعد، ليقتصر الأمر على مقعدين لحزب العدالة والتنمية الذي يرأسه جاب الله، وحزب الجزائر الجديدة على مقعدين كذلك.
وهذه النتائج بمجملها أعطت التيارين الوطني والاسلامي سيطرة يعطي الانطباع بتأمين المستقبل الثوابتي والوطني، من حيث القيم والمبادئ والأفكار المتعلقة بالتوجه النوفمبري الباديسي، الذي يمثل المرجعية الأساسية لكل الأحزاب التي نجحت في هذه الانتخابات.
وتوزعت بقية المقاعد على مجموعة من الأحزاب الأخرى، بين ثلاثة مقاعد إلى اثنين إلى واحد، بحيث وصل تعداد الأحزاب الممثلة في هذا البرلمان إلى 14 حزبا سياسيا.
إضافة الى القوائم المستقلة التي سارعت السلطة لتصنيفها على أنها كتلة واحدة، وهي في الحقيقة قوائم حرة من ولايات متعددة لا توجد علاقة تنظيمية ولا فكرية تجمعها، لكن لأن الأمر متعلق برهان رئيس الجمهورية على وجود هذه الكتلة لتكون كتلة كبيرة وقائدة بمفردها، غير أنها لم تصل لتكون كذلك “حصلت على أقل من ربع المقاعد” ولهذا ستكون في حاجة ماسة للتحالفات كما أشرنا، مما يصعب على الرئيس الاختيار بين هذه التشكيلات السياسية الفائزة.
وقد أمكنت هذه الانتخابات من مركزة الطبقة السياسية في الاحزاب الفعلية في الساحة السياسية، وبالتالي تفادي تكرار سيناريوهات تمييع الفعل السياسي، ومحاولات تضخيم الكيانات السياسية الهشة أو المستغلة في المناسبات كأدوات ترويج ودعم ومساندة لبرامج السلطة.
ومما لوحظ أن الأحزاب الكبيرة لم تسهم بعض في التمسك بالفعل الديمقراطي ونزاهة الانتخابات، بل اتجهت كل جهودها للفوز بطرق خادمة للتزوير ومغيبة للشفافية والتنافس النزيه، واستغلال كل وسائل النفوذ للفوز.
كما كشفت الانتخابات التشريعية عن تواجد فعلي لعدد قليل من الأحزاب السياسية قد لا يتجاوز 6 أحزاب التي تمتلك قاعدة نضالية، وتواجدا في الكثير من ولايات الوطن، وهذا مايدعو للنظر في بقية الأحزاب السياسية التي تتجاوز الستين، والتي لا أثر لها ولا تواجد ولا برامج لا مقترحات، وإعطاء فرصة جديدة لإنشاء أحزاب أكثر فاعلية، خصوصا من طرف الشباب الذي يراهن على دور سياسي بعد حراك 22 فيفري.

التعريف بالأحزاب الممثلة في البرلمان:
الأحزاب العريقة المشكلة للتحالف الرئاسي في عهد بوتفليقة، وتمكنت من بسط وجودها على رأس الكثير من البلديات والمجالس الولائيات، مما أمكنها من امتلاك إمكانات مادية ولوجستيكية، مع كم معتبر من الإطارات في الدوائر الحكومية والإدارات المحلية .. وهي:
حزب جبهة التحرير الوطني “الأفالان”، التيار الوطني، حزب تأسس إبان ثورة التحرير الجزائرية 1954، وكان الحزب الحاكم بعد الاستقلال ولم يسمح بتعدد الأحزاب حتى انتفاضة 5 أكتوبر 1988، لتدخل الجزائر مرحلة التعددية السياسية والإعلامية، ليخسر تشريعيات 1991، ثم تراجع أكثر مع تأسيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي في عهد الرئيس اليمين زروال “1995-1999″، الذي كان ندا له في بدايته ثم أصبح الحزبان متآلفان ويمثلان واجهتين لسلطة واحدة، ليتم التنديد به من طرف الحراك الشعبي في 22 فبراير حيث اتهم بأنه واجهة العصابة وأداتها للفساد، غير أن ظروف الانتخابات الرئاسية أعادته للساحة ليدعم المترشح عز الدين ميهوبي الأمين العام للأرندي والذي حصل على المرتبة الأخيرة فيها، ليختفي قليلا ثم يرجع في هذه الانتخابات التشريعية ويحصل على المرتبة الأولى فيها بـ 98 مقعد.
حزب التجمع الوطني الديمقراطي “الأرندي”، التيار الوطني، تأسس كما ذكرنا من رحم حزب جبهة التحرير في سنة 1996، ثم أصبحا شريكين في الحكم، وأغلب أعضائه من إطارات الإدارة وطنيا ومحليا، وكان رئيسه في أغلب فتراته رئيس الحكومة الأسبق أحمد أويحيى، الموجود الآن في السجن بتهم الفساد، وقد اتهم بقيادة التزوير في أغلب الانتخابات التي شهدتها الجزائر منذ تأسيسه، حتى سمي بحزب الإدارة، وكان مساره ومصيره مثل حزب جبهة التحرير، ورجع اليوم في انتخابات البرلمان وفي المرتبة الثالثة بـ 58 مقعد.
حركة مجتمع السلم “حمس”، التيار الإسلامي، أسسها الشيخ محفوظ نحناح وإخوانه سنة 1990، وترشح باسمها لانتخابات الرئاسة سنة 1995، ونال المرتبة الثانية بعد اليمين زروال، ثم دخلت الانتخابات التشريعية 1997 وفازت بـ 72 مقعدا، واركت في الحكومة بسبعة حقائق وزارية، ثم شكلت تحالفا رئاسيا في عهدة الرئيس بوتفليقة 1999-2004، مع الأفالان والأرندي، وشاركت في الحكومة إلى سنة 2010 حيث خرجت من الحكومة وأعلنت المعارضة، تعرضت لانقسامات متعددة من سنة 2008 إلى غاية 2013، بسبب الانسداد الحاصل في المواقف والرؤى، حيث تشكلت أحزاب جديدة وهي “جبهة التغيير 2012، وحزب أمل الجزائر 2012، وحركة البناء الوطني 2013 “، غير أن قيادة جبهة التغيير أعلنت تحالفها مع حمس ثم اندمجت معها وحل الحزب، أما حزب أمل الجزائر فأصبح من أحزاب السلطة.

أحزاب ناشئة، لكن بعضها هيئت له الظروف ليصبح كبيرا لحاجة السلطة إليه، ومنهم جبهة المستقبل والذي فاز في رئاسة كثير من البلديات ولديه مئات المنتخبين في المجالس البلدية والولائية، وبعضها كحركة البناء الوطني لا تمتلك أي من هذه الامتيازات، لا منتخبين ولا وزراء ولا إطارات ولا حتى مقرات ولائية، وتعريفا بهما:
جبهة المستقبل، التيار الوطني، تأسس سنة 2012، وقد كان مؤسسوه قيادات للمؤسسات الشبانية والطلابية سنوات الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي لحزب جبهة التحرير الوطني، غير أنها تعتبر نفسها حزبا معارضا وإن كان في المساحة الضبابية وأقرب إلى الهدنة مع السلطة لكونه قريبا من توجهاتها، دخل الانتخابات التشريعية 2017 وتحصل على 14 مقعدا ثم الانتخابات المحلية حيث تحصل على قيادة مجموعة مجالس بلدية ومئات المنتخبين في المجالس الولائية، ليصبح رقما سياسيا معتبرا، ومع الحراك الشعبي لم تظهر مواقفه بشكل صريح كداعم له، ليترشح رئيسه عبد العزيز بلعيد في الانتخابات الرئاسية 2019، وتحصل على المرتبة الرابعة، وهي المشاركة الرابعة له منذ انتخابات رئاسة 2004، ثم شارك في أول حكومة في عهد تبون بحقيبة واحدة، كما كانت له علاقة إيجابية بحركة البناء الوطني حيث تشاركا في تكتل قوى الإصلاح الوطني، وفي كل مخرجاته، وأخيرا المشاركة في هذه الانتخابات التشريعية ليحصل على 48 مقعد.
حركة البناء الوطني، التيار الوطني، تأسست سنة 2013 وحصلت على الاعتماد في جويلية 2015، وقد كان جزء معتبر من قياداتها في حركة حمس سابقا، وقناعة راسخة منها بمنهج وفكر الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله ورؤيته السياسية انطلقت في شق طريق جديد لتكون قوة سياسية مأثرة وفاعلة، فدخلت كأول تجربة سياسية في تحالف مع حزبي العدالة والتنمية الذي يرأسه الشيخ عبد الله جاب الله، وحزب النهضة في الانتخابات التشريعية 2017، وتحصلوا جميعا على 15 مقعدا، وكان نصيب البناء 6 مقاعد، ثم أعلنت مشاركتها للانتخابات الرئاسية المفترض إجراؤها في ماي 2019، لكنها ألغيت بسبب رفض الحراك الشعبي الذي انطلق في 22 فيفري 2019 الرافض للعهدة الخامسة التي كان يعول عليها بوتفليقة، وتم توقيف المسار السياسي إلى غاية 12 ديسمبر 2019 حيث أقيمت انتخابات رئاسية شاركت فيها الحركة بمرشحها عبد القادر بن قرينة والذي حصل على المرتبة الثانية بمليون ونصف مليون منتخب، وذلك تماشيا مع قناعتها باستكمال الحياة السياسية وفق مسار الحل الدستوري، رافضة المراحل الانتقالية غير الآمنة، لتواصل حضورها في تكوين تحالف قوى سياسية واجتماعية واقتصادية تكلل بتكتل قوى الإصلاح الوطني، التي قدمت مقترحاتها حول تعديل الدستور الذي استفتى عليه الشعب الجزائري في 1 نوفمبر 2020، ثم شاركت بقوة في تعديل قانون الانتخابات ثم المشاركة في الانتخابات البرلمانية الحالية حيث حصلت على 39 مقعد.

حجم تمثيل المرأة والشباب والمستوى الجامعي:
شهدنا في نتائج انتخابات مجلس الشعبي الوطني محدودية مشاركة المرأة بـ 34 مقعد فقط، مما يمثل تراجعا ملحوظا حول حجم مشاركتها، مما يدفع ببعض الجهات للتنديد بهذا التوجه الذي لا يخدم بالنسبة لهؤلاء الجهود المبذولة لتطوير حضور المرأة ومشاركتها في الحياة الوطنية، ولأجل هذا يمكن أن تراجع القضية لكن بشكل عقلاني يراهن على الكيف وليس على الكم لتكون ممثلة بالشكل الذي يناسب تواجدها في المجتمع وكفاءتها وحضورها في النشاط السياسي.
وعلى العكس من هذا فقد كان لمشاركة الشباب على المشاركة في العملية السياسية مؤشرا هاما خصوصا بعدما افتكوا 140 مقعدا بالبرلمان، وهذا مايدفع لتثمين الارادة التي اصبح يتحلى بها والتي تدفعه ليكون له دور في ادارة مؤسسات الدولة والاسهام في القرار الوطني، وتجاوز الصورة النمطية التي كانت تظهر نقمة الشباب على السياسة والاحزاب، وتذهب به بعيدا عن الانشغالات الحقيقية التي تجعله عرضة للسلبية والعطالة، او الاتكالية.
شكّل شرط المستوى الجامعي في الترشح لثلثي لأعضاء القائمة المترشحين توجها مهما رغم أنه لم يغير شيئا في نسبة التمثيل، لكنه بهذا الشرط وهذا ليكون أعضاء البرلمان أكثر وعي بواجباتهم وأقدر على فهم القوانين ومناقشتها، وعلى مراقبة عمل الحكومة وتقويمها، وعلى تقديم المقترح وغيرها، مما أمكن من نيل 274 مقعد لأصحاب المستوى الجامعي، مما يكون له الدور في رفع مستوى الاداء البرلماني، واثراء النقاشات والمقترحات وجودتها، وتحفيزا للطاقات الجامعية لتكون ذات اثر في سياسات التنمية الوطنية.
مقاطعة منطقة القبائل:
مع كل هذا فقد جرت الانتخابات في أجواء قاطعتها ولايتي تيزي وزو وبجاية بشكل واسع تعبيرا من منطقة القبائل على رفضها لهذا المسار، ورفضها اصلا المسار الانتخابي، والضغط من أجل أبعاد إثنية، وهذه الأبعاد الإثنية تتكرر في كل مرة وتعود في كل مرة الى المشهد الوطني في مثل هذه المناسبات وخصوصا بعد سقوط العصابة واتهام رجال اعمال ينتمون الى هذه المنطقة بالفساد والارتباط مع العصابة، ما شحن هذه المنطقة وجعل المسألة مرتبطة بالمسألة الإثنية، وعمق هذه المقاطعة للأسف الشديد هذا التوجه الرافض لكل المنطق السياسي الرسمي من جهة، ومن جهة ثانيه تعرف هذه المنطقة والاحزاب الممثلة لها محدودية حضورها على المستوى الشعبي وعلى المستوى الوطني، ولذلك يعرفون مسبقا خسارتهم في مثل هذه الانتخابات فيتجهون مباشرة الى المقاطعة، وطبعا هذه ليست المقاطعة الاولى وإنما هي في الغالب منذ 20 سنة، حيث لم تشارك هذه الاحزاب في المؤسسة التشريعية، واستمرت الانتخابات واستمرت تلك المؤسسة في أدوارها دون ان تتأثر تأثيرا كبيرا.

الظروف الخارجية الضاغطة:
جرت هذه الانتخابات في أجواء من التوتر الاقليمي حيث شهده الجزائر حالات من الاكراهات والضغوطات الإقليمية، مست جوارها وحدودها على مختلف الجهات، وتشهدت بالمناسبة ايضا حالة من الضغط من الضفة الشمالية للبحر الابيض المتوسط تعرقل الانتقال الديمقراطي في الجزائر وتشوش على الانتخابات وعلى المؤسسات وعلى الجيش، وطبعا هذه الضغوطات تتزايد في كل المحطات الحساسة في تاريخ الجزائر السياسي.

حجم التزوير وضعف الإقبال:
هذه الانتخابات لم تخل من التزوير، لكن هذا التزوير لا يرتقي الى الطعن في مصداقيتها كلية، لأن هذا التزوير لم يكن تزوير ادارة وانما كان تزوير أحزاب، خصوصا التي كانت تحوز مجالس محلية منتخبة، حيث ضبطت محاضر تزوير لم يستثن منها احد من الاحزاب الثلاثة الاولى كلها، وهذا الذي جعلها تتقدم في المراتب الأولى مع العزوف الشعبي على الانتخاب، وإلا فالحالة الشعبية لم تكن لتسمح بفوز جبهة التحرير على اكثر من 100 مقعد.
نسبة الانتخاب التي أعلنتها السلطة المستقلة للانتخابات والتي وصلت لـ 23 في المائة، ضئيله بالنظر إلى كون هذه أول انتخابات تشريعية تلت الحراك الشعبي، وكانت أقل من الانتخابات الرئاسية، وتعددت الأسباب كما ذكرنا في أول ورقة، والأهم أنه لا يوجد حد معين للمشاركة الشعبية لإثبات صحة الانتخابات من عدمه.

حركة البناء الوطني ضمن هذه الانتخابات:
تمثل خيار حركة البناء الوطني ضمن عنوان “المسار الدستوري” من اجل المحافظة على استمرار الدولة واستقرار مؤسساتها، مع احداث حالة من التحول الديمقراطي الآمن، و كان هذا من أهم المطالب التي جاء بها الحراك الوطني الاصيل الذي انهى سيطرة العصابة، وقضى على محاولات التمديد والعهدة الخامسة للرئيس السابق بوتفليقة.
لقد دخلت حركة البناء الوطني وكأول دخول لها في الانتخابات التشريعية، بمقاربة جديدة، وهي مقاربة البحث عن الحاضنة الشعبية، مما جعلها تفتح قوائمها لكفاءات من خارج وعائها ومناضليها، أي من عموم الشعب، حيث كان الإقبال الكبير والتواجد ضمن قوائم الحركة، ووصل تمثيلهم في بعضها لأكثر من ثمانين بالمئة و20 الباقية من مناضلي الحركة، وهذا تعبيرا من الحركة بأنها حركة الشعب الجزائري، وفي الوقت ذاته دعوة لتبني رؤية الحركة والالتفاف الشعبي حول مشروعها.
استطاعت الحركة أن تتواجد في كل الدوائر الانتخابية 62 (58 في الداخل و4 في الخارج)، كما تميزت في قدرتها على الحضور النوعي والواسع والمؤثر الإعلامي والشعبي، وعلى مستوى الخطاب، حيث رصدت مختلف الدوائر تصدر الحركة للمشهد.
ميز خطاب حركة البناء الوطني البعدين الثوابتي والوطني، والدعوة لحماية الوطن ودعم استقراره وقوته وازدهاره، كما انخرط في الحديث عن انشغالات المواطن واحتياجاته ورفع الغبن عنه، وتوسيع دائرة الحريات على مختلف المستويات ليتمكن المواطن من آداء أدواره في التنمية، كما كانت الإشارة إلى رفض الإقصاء لمشاركة جميع الجزائريين في بناء وطنهم.
ولعل هذا الخطاب مع انفتاح الحركة على مختلف الكفاءات المجتمعية ومن كلا الجنسين، أعطى للحركة زخما سياسيا خاصا، جعلها محل إقبال من مختلف الكفاءات التي رأت في مشروع الحركة وسياستها وقدرتها على الحضور السياسي النوعي والمؤثر، فرصة للانخراط في العمل السياسي والمشاركة في التمثيل في المؤسسات المنتخبة، وعمق هذه الحالة وفاء هؤلاء حتى بعد انتهاء الانتخابات وعدم حصول كثير منهم على مقعد بالبرلمان، ونيتهم في استكمال النضال في صفوف الحركة.
والحقيقة أن هذا التوجه من الحركة وهذا الإقبال ثم إرادة الاستكمال، ستزيد الحركة إصرار على توسيع دائرة حضورها الشعبي، ومساعيها لاحتضان الكفاءات العلمية والهنية والخبراتية، وستدعوها لتقوية أدواتها النضالية والسياسية والمؤسساتية لتعميق الحضور في المؤسسات المنتخبة المحلية التي نقترب من اجراء الانتخابات الخاصة بها، مما يزيد من أعباء الحركة في تحمل مسؤولياتها لأجل تقوية التيار الإصلاحي وتمكينه من إدارة الشأن العام لضمان تحقيق مشروع الإصلاح.
على أننا نعترف بأن طموح الحركة كان أكبر من هذه النتائج، غير أنها مثلت فوزا نسبيا يمكن ان تبنى عليه خطوات نحو المستقبل، وفي نفس الوقت فإنها ستقلل من العداوات وتسليط الأضواء، وستسمح بالتقدم في الساحة في ظل العافية التي تعطي فرصة أكبر للتوسع والعمل الهادئ من اجل ترسيخ المشروع داخل المجتمع.

تشكيل الحكومة:
تشكيل الحكومة سيكون محل حوار ونقاش بين الكتل الكبيرة في الغالب، وستكون الحكومة وفق هذه المعطيات ممثلة بوزير أول لكون الأغلبية تتبنى برنامج رئيس الجمهورية، على أن التوجه الأقل حظوظا في هذه الحالة وهو تشكل حكومة تتبنى برنامجا غير برنامج الرئيس ضمن مايصطلح عليها الدستور بحكومة أغلبية برلمانية تلتقي بها كتل معارضة للرئيس، يقودها رئيس حكومة يمتلك صلاحيات واسعة.
أو يكون الخيار نحو برنامج توافقي بين الاحزاب على برنامج خروج من الأزمة، وتجاوز تبعات وباء كورونا ومابعدها، والسعي لاستكمال مساعي الإصلاح الاقتصادي والتنموي، على أن هذا الخيار لم يتبلور بعد ويصعب تجسيده في ظل عادة أحزاب السلطة خصوصا “الأفلان والأرندي” على ولائهما الكامل للسلطة وتوجهات رئيس الجمهورية، مع وجود كتلة الأحرار الكبيرة التي تعمل السلطة لاستدراجها لتكوين تلك الأغلبية الرئاسية.

رسائل للسلطة:
إن مما يجب أن تقتنع به السلطة في الجزائر أن نسبة المشاركة في تراجع من استحقاق انتخابي إلى آخر، وهذا لا يضر بالعملية الانتخابية فقط بل يهدد استقرار المؤسسات وحيويتها.
ولهذا يجب أن تقرأ جيدا الأسباب الحقيقية لعزوف كل هذه النسبة عن الانتخابات، خصوصا وأن الأمر يتعلق بتدهور المستوى المعيشي، وسوء الخدمات، وهشاشة المؤسسات المنتخبة وعجزها عن تلبية احتياجات المواطنين، وتراكم المشاكل الاجتماعية، وتضييق على الحريات، وبعضها يتعلق بمصداقية العملية الانتخابية التي لم تتحرر بعد من هيمنة الإدارة وعصب المال.
كما أنه من الضرورة بذل جهود إضافية لترقية الديمقراطية فعليا، وإشراك مختلف القوى الوطنية في الرأي والمشورة، وضمان شفافية واستقلالية أكبر لمختلف المؤسسات المعنية بهذا، كالهيئة الوطنية المستقلة للانتخابات التي تجاوزتها الأحداث وطنيا ومحليا، ولم تستطع التحكم في العملية الانتخابية التي نجحت بعض الأطراف في استغلال اختلالاتها لجهات معينة.
لا يمكن الرهان على الأحزاب التقليدية التي فشلت في التنمية وإدارة الحكم زمن العصابة، والقضاء على آثارها التي شوهت العملية السياسية، وتغيير البوصلة نحو القوى الجديدة التي أثبتت تواجدها وفاعليتها وقدرتها على أن تكون منافسا حقيقيا في البرامج والكفاءات، مع فتح المجال السياسي والإعلامي لمختلف الكيانات الجديدة لتغذية الساحة الوطنية بالرؤى، وإبراز الكفاءات والاسهام في البناء وفق قوانين وقيم ضابطة ومؤَمّنة ..
كما أنه من الضروري أن تتاح الفرصة الكاملة للبرلمان الجديد والحكومة المنبثقة عنه مهما كانت صفتها أن يلعبا الدور المنوط بهما لتقوية المؤسسة التشريعية وفاعلية المؤسسة التنفيذية لاسترداد الثقة وبدء التنمية الحقيقية، ليكون الرهان على مشاركة شعبية واسعة في الاستحقاقات القادمة، وبالتالي إشراك الشعب في تأمين مؤسساته.

Share on whatsapp
Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on email
Share on print

رابط مختصر للمادة:

اقرأ أيضاً

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram
Share on email
Email
Share on print
Print

رابط مختصر للمادة: