قوة الرب المقَّدسة.. كيف حول نتنياهو الجيش الإسرائيلي إلى ميليشيا دينية؟

قوة الرب المقَّدسة.. كيف حول نتنياهو الجيش الإسرائيلي إلى ميليشيا دينية؟

مع تجدُّد المواجهات العسكرية بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي، تدور في الخلفية حرب رواياتٍ لا تقل ضراوة عن حروب الطائرات والصواريخ. وفي حين يخوض الفلسطينيون المعركة باسم الدفاع عن أرضهم ومقدَّساتهم في مواجهة قوة احتلال غاشمة لا تعرف إلا منطق القوة، يخوض الاحتلال الحرب تحت شعار مواجهة الإرهاب الفلسطيني المزعوم، ولكن في الكواليس، ترُوج رواية شائعة بين صفوف جيش الاحتلال حول الحرب المقدسة لإسرائيل على الأرض التي ضمنها الرب لشعبه المختار.

كان الجنرال أوفير وينتر هو رجل الشُبّاك بالداخل الإسرائيلي بلا منازع خلال الأسابيع الأخيرة قبيل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عام 2014، ويُعَدُّ وينتر أحد أبرز القادة الميدانيين في جيش الاحتلال، وهو المسؤول عن لواء “جفعاتي” أحد الألوية الأربعة الرئيسة للجيش، الذي كان يدير مسرح العمليات جنوب قطاع غزة أثناء الحرب، وقد نجح وينتر آنذاك في إثارة جدل كان أقل ارتباطا بالحرب ذاتها وأكثر ارتباطا بصراعات الهوية التي لا تنتهي في الداخل الإسرائيلي، حين كُشف النقاب عن مرسوم رسمي (1) مرَّره وينتر إلى مرؤوسيه في وقت كان فيه الجيش الإسرائيلي يواصل استعداده للحرب. وتضمَّن المنشور الموجَّه إلى ضباط وجنود اللواء نبرة دينية غير مألوفة في مثل تلك المراسيم العسكرية الرسمية، حيث كتب وينتر لجنوده يخبرهم أن “التاريخ اختارنا لقيادة القتال ضد العدو الغزاوي الإرهابي الذي يشتم ويكفر ويلعن إلـه القوات الإسرائيلية”، وذكر وينتر في أعقاب ذلك “صلاة شيما”، وهي صلاة يهودية يُقسِم فيها المصلي يمين الولاء للإله الواحد “إله إسرائيل“.

أثار منشور وينتر عواصف كبيرة من الاحتجاج بين صفوف العلمانيين في الداخل الإسرائيلي، مُعربين عن “مخاوفهم” من نبرة دينية آخذة في الارتفاع بين صفوف قوات الجيش، ومُحذِّرين من تحويل جيش الاحتلال من “جيش للشعب إلى مليشيا دينية”. ورغم وجود حالة من شبه الإجماع داخل إسرائيل حول الهوية اليهودية للدولة، فإن هناك خلافا تاريخيا محتدما حول ما يعنيه هذا “المُكوِّن اليهودي” للهوية الإسرائيلية بدقة، وهل تعني اليهودية بوصفها “مشتركا ثقافيا ووطنيا” أم أنها تعني “التعاليم اللاهوتية للديانة اليهودية”. وفي حين أن المؤسسين الأوائل للدولة العبرية وجيش الاحتلال يرون “الصهيونية” إطارا وطنيا أكثر علمانية، فإن الصهاينة المتدينين الذين يتمدَّدون في إسرائيل اليوم ينظرون للأمر نظرة مختلفة.

لذلك، رغم وجود اتفاق ضمني بين ديفيد بن غوريون ورفاقه حول علمنة الإطار الصهيوني فإنهم تفادوا معالجة هذه القضية الشائكة في “إعلان تأسيس الدولة”، وربما يكون هذا الجدل الهوياتي هو السبب في أن دولة الاحتلال تبقى بلا دستور حتى الآن رغم مرور قرابة سبعة عقود على نشوئها بحكم الواقع. ولم يذكر الإعلان التأسيسي لدولة الاحتلال “الرب” إلا مرة واحدة باعتباره “عماد إسرائيل”، ولم تُوصَف إسرائيل في إعلان الدولة (2) على أنها “إرث الله للإسرائيليين” كما يراها اليهود المتدينون، وبدلا من ذلك وصف الإعلانُ الأرضَ بأنها “مهد الشعب اليهودي”، وهي صيغة بدت في جوهرها أقرب إلى علمانية إعلان توماس جيفرسون الأميركي.

على مدار عقود طويلة، هيمن القوميون العلمانيون الصهاينة على الحكومة والجيش، وظلَّ الجدل الديني حول الهوية محصورا لسنوات طويلة في صفوف نسبة لا تزيد على 10-12% من اليهود المتدينين “الحريديم” الذين مُنِحوا إعفاءات شبه مطلقة من المشاركة العسكرية بموجب اتفاق مع الأحزاب السياسية، في حين هُمِّشوا سياسيا بصورة ملحوظة. ولكن هذه الخريطة الديموغرافية للتديُّن في الدولة العبرية أخذت في التحوُّل بسرعة كبيرة خلال العقدين الأخيرين، وذلك بعد ظهور طبقة جديدة من المتدينين الأكثر انخراطا في شؤون المجتمع والسياسة. وأظهر استطلاع للرأي أُجري عام 2009 أن 42% فقط من اليهود الإسرائيليين يصفون أنفسهم اليوم بأنهم “علمانيون”، في حين أن نسبة 20% على الأقل يرون أنفسهم على أنهم من “الحريديم” أو من “الأرثوذكس” الأكثر تديُّنا.

ومع التزايد المُطَّرد لجهود التبشير الديني للمتدينين، والارتفاع الملحوظ أيضا في معدلات الإنجاب لديهم مقارنة بالمتوسط، فإن الراجح أن هذه النسبة تتزايد اليوم تزايدا مُقلِقا في المجتمع، وبشكل أكثر درامية داخل الجيش الإسرائيلي الذي يتحوَّل تدريجيا وسريعا من معقل تاريخي للعلمانية الصهيونية إلى “قوة للرب” يُهيمن عليها فعليا (3) رجال الدين وأتباعهم من الصهاينة المتدينين.

رغم أن الصهاينة الأوائل حرصوا بوضوح -ولأسباب إستراتيجية بحتة- على إبقاء الجيش مؤسسة علمانية في قيمها الأساسية، فإنهم لم يُنكروا أهمية الدين في أي وقت بوصفه مُكوِّنا تعبويا سواء للمجتمع أو حتى للجيش (4). وجادل حاييم وايزمان الذي تزعَّم الحركة الصهيونية في الفترة بين عامَيْ 1921-1946 أن الدافع الديني “لديه مقدرة فريدة لا يمكن الاستغناء عنها في إيقاظ طاقات الشعب اليهودي”، كما اعتبر تيودور هرتزل الدين أداة من أدوات توحيد صفوف اليهود حول فكرته، كما أنه رأى الحاخامات بوصفهم “ضباط اتصال” بين حركته من جهة وبين مجتمعات اليهود حول العالم من جهة أخرى.

نتيجة لذلك، فإن علاقة رجال الدين بالجيش الإسرائيلي بدأت فعليا منذ اللحظة الأولى لتأسيس دولة الاحتلال عام 1948، حين أُنشِئت وحدة تُسمى “الحاخامية العسكرية” تهدف إلى رعاية الجنود المتدينين، ومراقبة الحفاظ على التعاليم الدينية والتذكير بالتعاليم والأعياد اليهودية، ما تسبَّب في صدام مبكر بين المتدينين والعلمانيين داخل الجيش، حيث اعتبرها العلمانيون وسيلة من المتدينين لكسب التأثير الأيديولوجي على الجنود، ما دفع قيادة الجيش إلى الحرص على محاصرة نفوذ الحاخامات العسكريين وأتباعهم إلى أقصى درجة ممكنة.

ولكن حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، وبوضوح أكثر حرب لبنان الأول عام 1982، شكّلتا نقاطا فارقة دفعت نحو إعادة تنظيم التكوين الاجتماعي للجيش الإسرائيلي بشكل سمح بتوسُّع نفوذ المتدينين. وشهدت هذه الفترة انخفاضا تدريجيا في دوافع الالتحاق بالجيش، خاصة بين الجماعات العلمانية من الطبقة الوسطى التي شكَّلت العمود الفقري التاريخي للقوات الإسرائيلية، وهي أزمة شهيرة في التاريخ العسكري الإسرائيلي عُرفت باسم “أزمة الدافعية”.

ويمكننا أن نُصنِّف هذا التحوُّل ضمن إطار تغيير ثقافي أوسع (5) كان لُبُّه الأساسي هو تراجع مركزية الجيش الإسرائيلي في مجتمع مُتحرِّر مُوجَّه نحو السوق، إضافة إلى حالة تململ من الصراعات والحروب التي صار يُنظر إليها أنها “بلا مبرر”، خاصة بعد توقيع اتفاقات سلام مع مصر، ولاحقا مع السلطة الفلسطينية في أوسلو، ومع الأردن في مطلع التسعينيات. نتيجة لذلك، توجَّهت الطبقة الوسطى منذ السبعينيات إلى إنشاء منظمات سلام مثل “السلام الآن” و”الأمهات الأربعة” ترتكز شرعيتها على مساهمة الناشطين العسكريين السابقين.

بعد سنوات من الاغتراب والتهميش، مَثَّلَ هذا الفراغ العسكري فرصة للمتدينين للعودة من جديد إلى الجيش بشروطهم الخاصة، وبدعوة من القادة العسكريين الذين طالما همَّشوهم، حين دعا قادة أفرع الجيش بأنفسهم الحاخامات لاستقطاب المتدينين إلى الجيش، الذين اغتنموا بدورهم الفرصة السانحة للانخراط في الصفوف العسكرية من أجل تعزيز وضعهم الاجتماعي من ناحية، وتماشيا مع معتقداتهم في “تجديد السيطرة اليهودية” على ما يعتبرونه “الأرض المقدسة” من ناحية أخرى.

وسرعان ما تحوَّل الأمر إلى سياسة مُمنهجة بعد أن أصدر الحاخام “إبراهيم شابير” (6)، أحد أبرز زعماء هذا التيار، فتوى مفادها أن “التجنيد في الوحدات الدينية قربى للرب، وأن الخدمة العسكرية والروح القتالية مهمة جماعية يفرضها الرب بهدف قيادة المشروع اليهودي”. وجاء هذا التوجُّه متزامنا مع مشروع الاستيطان المُتشبِّع بالروح الدينية الذي ازدهر في ذلك التوقيت، مما هيَّأ الظروف لتحويل الصهيونية الدينية من تيار هامشي إلى تيار سياسي وثقافي مركزي في كلٍّ من المجتمع والجيش.

في ذلك التوقيت كان الجيش الإسرائيلي مضطرا لتخفيف قبضته على المتدينين من أجل سد فراغ مُرشَّح للاتساع في منظومة التجنيد نتيجة عزوف الطبقة المتوسطة عن اللحاق بها، وتنامي ظاهرة التهرُّب من الخدمة العسكرية (7). وجاءت البداية عبر السماح بتأسيس المدارس الدينية العسكرية التمهيدية “يشيفوت هسدير” أو “مدارس التسوية”، وهي هيئات أُنشِئت بهدف الإشراف على الجنود المتدينين، حيث يُجنَّد الملتحقون بها لمدة 18 شهرا، على النقيض من فترة التجنيد التقليدية في جيش الاحتلال البالغة ثلاث سنوات للذكور، إضافة إلى 45 يوما من الخدمة الاحتياطية سنويا يُتبادَل خلالها الدراسة العسكرية والدينية.

يبلغ عدد هذه المدارس في إسرائيل اليوم 42 مدرسة، وتلا تلك الخطوة تحرُّك آخر أكثر أهمية وهو تقنين تأسيس أكاديميات دينية للتأهيل العسكري، بحيث تُقدِّم جرعة أقل من المناهج الدينية لاستيعاب الشرائح الأقل تديُّنا، وتُركِّز على التحفيز الديني، ويبلغ عددها اليوم 13 مدرسة وتقع معظمها في مستوطنات الضفة الغربية.

تسبَّبت هذه التسهيلات في زيادة نسبة المتدينين بين صفوف كبار الضباط، وزيادة وجودهم في الوحدات الميدانية، وجاءت النسبة الأكبر من هؤلاء الضباط من الناشئين في المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة، ما خلق رابطا بين المستوطنين والجيش من وجه، ومنح الحاخامات نفوذا أكبر داخل المؤسسة العسكرية وقدرات متزايدة على المساومة من وجه آخر. وقد دفعت تلك التطوُّرات الجيش الإسرائيلي في النهاية إلى وضع أُطر تنظيمية جديدة لتجنُّب غضب الحاخامات، ضمَّت مبادئ توجيهية تُنظِّم الحياة المشتركة للنساء والجنود المتدينين عبر تقييد الاختلاط، وفصل أماكن السكن والحمامات وأماكن السباحة المُخصَّصة للمجندين من الذكور والإناث، والتعهُّد بإحياء التقاليد والشعائر اليهودية. كما أُعطِي الجنود المتدينون من خريجي الأكاديميات التوراتية قبل العسكرية الحق في التغيُّب عن الأنشطة الترفيهية التي تتعارض مع التزامهم الديني.

يتغلغل خريجو هذه الأكاديميات اليوم في جميع وحدات الجيش، ولكن الأمر كان مختلفا قبل نحو ثلاثة عقود من الزمان، حيث كانت هناك 12 عائلة يهودية فقط تقطن منزل “تل الرياح” في مستعمرة إيلي في الضفة الغربية، قبل أن يُقرِّر الحاخام يغال ليفنينشتاين، بدعوة من عمرام ميتسنيهن لواء القيادة الوسطى، ويوسي بن حنان قائد فيلق الدبابات، تحويل المنزل إلى أول أكاديمية توراتية للتأهيل العسكري بمعاونة تلميذه الحاخام إيلي سادان.

أصبحت أكاديمية بني ديفيد “أبناء داوود” النموذج الأول لـ 13 أكاديمية توراتية أُسِّسَت في وقت لاحق لتأهيل الشباب للالتحاق بالجيش. وفي حين كان الحاخامات يشكون في السبعينيات من تهميش المتدينين ومنعهم من الانخراط في سلك الضباط فإن 25% من خريجي هذه الأكاديميات اليوم ينخرطون في سلك الضباط، وهي نسبة قياسية ترتفع ارتفاعا مذهلا لتصل إلى 40% في حالة أكاديمية بني ديفيد بوجه خاص.

ما حدث إذن كان أشبه ما يكون بصفقة ضمنية تلاقت عندها مصالح الجيش الإسرائيلي مع أجندة الصهيونية الدينية. ولكن القلق بدأ يساور الجنرالات حول النفوذ الديني في الجيش -لأسباب حقيقية تماما- في عام 2005 مع تنفيذ خطة الانسحاب من قطاع غزة، حيث كانت الخطة تتضمَّن إجلاء أكثر من ثمانية آلاف مستوطن. ورغم أن الجيش نجح في النهاية في تنفيذ خطة الإجلاء فإنه كان مضطرا (9) لتطبيق إجراءات غير تقليدية تضمَّنت إبعاد الوحدات الأكثر تديُّنا عن مهام إجلاء المستوطنين بسبب تأثير فتاوى الحاخامات التي جرَّمت المشاركة في العملية، ورغم ذلك فقد وُثِّقَت 23 حالة عصيان للأوامر تتعلَّق بعملية تفكيك المستوطنات خلال هذه الفترة.

في أعقاب عملية الانسحاب من قطاع غزة وتركُّز الصراع في الضفة الغربية أصبحت الأجندة الرامية لزيادة وجود الجنود الدينيين في الوحدات القتالية أكثر وضوحا. ومع حاجة الجيش الإسرائيلي إلى المزيد من القوة العاملة للقيام بالمهام الشرطية في الضفة المحتلة فإن جيش الاحتلال سمح للمستوطنين بحمل السلاح منذ الثمانينيات، ودُمِجت مليشيات الاستيطان في وحدات الدفاع الإقليمي التابعة للجيش. وتُعَدُّ المستوطنات المعاقل التقليدية للمتدينين الصهاينة، لذا لم يكن من المستغرب تحوُّل هذه المليشيات سريعا إلى عصابات مُنظَّمة لاستهداف الفلسطينيين (10)، ميليشيات قتلت ما لا يقل عن 124 فلسطينيا بينهم 23 قاصرا على الأقل بين عامَيْ 1987-2001.

تزامنا مع الانسحاب الإسرائيلي من غزة أيضا، قرَّر جيش الاحتلال في عام 2005 تأسيس لواء “قفير” لتجميع ست كتائب مشاة مُكلَّفة بالأنشطة الشرطية في الضفة الغربية، وللمفارقة المُتوقَّعة فإن نصف أعضاء هذا اللواء على الأقل كانوا من خريجي المدارس الحاخامية، كما أنه حوى نسبة كبيرة جدا من المستوطنين، ما أدَّى إلى تلاشي المساحات الفاصلة بين المستوطنين وجنود وضباط الجيش.

أثار هذا التداخل الهواجس لدى القيادات الإسرائيلية من تسلسل هرمي مزدوج ناتج عن ازدواج ولاء الجنود والضباط المتدينين بين قادتهم العسكريين وقياداتهم الروحية. وخرج تقرير “ساسون” عام 2005، وهو تحقيق طلبته الحكومة الإسرائيلية حول حالة نمو البؤر الاستيطانية غير المرخصة، بنتائج عزَّزت هذه المخاوف. وخلص التقرير إلى أن العديد من قادة الجيش يرون أفعال المستوطنين -ومنها بناء البؤر الاستيطانية- “أعمالا مشروعة صهيونيا حتى وإن كانت غير قانونية”، ما تسبَّب في تورُّط سلطات حكومية في إنشاء بؤر استيطانية غير مأذون بها وحمايتها، كما أشار التقرير إلى وجود عدد كبير من أفراد جيش الاحتلال يقيمون في مستوطنات غير رسمية.

لاحقا، شهد عام 2009 واقعة أكثر إثارة للجدل (11) بيد أنها لم تلقَ حقها من تسليط الضوء. ففي أثناء حفل أُقيم لكتيبة “شمشون”، لوحظ جنديان أكملا تدريبهما الأساسي للتو يرفعان لافتات تقول “شمشون لن تفكك هوميش”، و”هوميش” هي مستوطنة في شمال الضفة الغربية فُكِّكت باعتبارها جزءا من خطة فك الارتباط عام 2005، لكنّ المستوطنين حاولوا إعادة توطين أنفسهم، واستُدعيت كتيبة “شمشون” لمنعهم، وكانت هذه هي المرة الأولى في تاريخ الكيان التي يحمل فيها الجنود لافتات احتجاجية خاصة خلال مراسم رسمية أو داخل مجمع عسكري، ما دفع جيش الاحتلال إلى تشكيل وحدة خاصة هدفها ردع الجنود عن عصيان الأوامر.

بيد أن القلق الذي يُثيره الصهاينة المتدينون في إسرائيل لا يتعلَّق فقط بالمخاوف من قيامهم بعصيان الأوامر حال أُسندت إليهم أدوار تفكيك بعض المستوطنات، ولكنها تمتد إلى سجالات حول ملفات حساسة داخل الجيش والمجتمع في إسرائيل، وخاصة حول الدور الذي يُفترض أن تقوم به المرأة داخل العسكرية الإسرائيلية.

في مؤتمر صحفي يوم 10 أغسطس/آب 2014، كان الجنرال وينتر، قائد لواء “جوفاتي” نفسه السابق الإشارة إليه، بطلا لواقعة جديدة مثيرة للجدل، بعد أن نشرت الصحف أخبارا عن قيامه بممارسة ضغوط من أجل استبدال المطربة ساريت حداد لصالح المطرب موشيه بيرتس في عرض احتفالي تشارك فيه قوات اللواء، نظرا لرفضه أن تُقدِّم امرأة إحدى الفقرات قبل عرض لقواته. واضطر المُتحدِّث باسم الجيش إلى تبرير الواقعة بأن الاختيار وقع في النهاية على بيرتس بوصفه المطرب الأكثر شعبية بين صفوف الجيش، وأن الواقعة لا تُعَدُّ شكلا من أشكال التمييز ضد المرأة في صفوف الجيش كما ادَّعت الصحف آنذاك، ولكن تبريره هذا لم يلقَ الكثير من القبول بكل تأكيد.

في فبراير/شباط 2017، واستكمالا لمشروعات تمكين النساء في الجيش، أُعلِن لأول مرة عن إطلاق برنامج تجريبي لتدريب فرق دبابات نسائية. ولكن مع وجود المتدينين فإن هذه الخطط لا تسير بهدوء ويُسر (13)، لذا اصطدم القرار بخطاب عنيف من قِبَل الحاخام ييغال ليفينشتاين، رئيس أكاديمية مستوطنة إيلي، داعيا شابات القطاع الصهيوني الديني لرفض التجنيد في الجيش على الإطلاق، مُدَّعيا أن النساء اليهوديات اللواتي يلتحقن بالجيش الإسرائيلي يخرجن “غير يهوديات”.

لم يكن خطاب ليفنشتاين العدائي هو السجال الأول من نوعه الذي يخوضه رجال الدين بخصوص المجندات. في عام 2011، وفي وقت واصلت فيه النساء مسار الارتقاء العسكري، أكَّد الحاخام الأكبر آنذاك أفراهام شابيرا أنه “لا ينبغي لنا أن نستسلم للوضع الذي يدفع ثلث النساء من خريجات المدارس الدينية للتجنيد في الجيش”، وأنه ينبغي تعليم الفتيات في إسرائيل “الصمود أمام الإغراء، والاحتفاظ بالنقاء، وتجنُّب ذنب الخلوة بالرجال والتورُّط في العلاقات الجنسية المحرمة”.

لا ينظر المتدينون إلى توغُّل النساء في جيش الاحتلال على أنه أمر يُهدِّد الهوية اليهودية فحسب، بل إن بعضهم ينظر إليه كونه “مؤامرة من العناصر الليبرالية واليسارية” لإضعاف المجتمع والجيش. ولكن الأسباب ذاتها التي لا تُمكِّن الجيش من الاستغناء عن خدمة المتدينين أو التقييد عليهم هي ذاتها التي تدفع الجيش إلى التوسُّع في تجنيد النساء (14) باعتباره قضية مصيرية. لذا فإن قيادات الجيش غالبا ما تميل إلى التعامل مع هذه السجالات باستخدام سياسة البحث عن الحلول الوسطى، من أجل كسر معضلة الاختيار بين المتدينين أو النساء التي تحاول الدوائر الدينية الأكثر تشدُّدا فرضها عليه عبر الاستجابة لمطالب الحاخامات تارة، وعبر تقليص نفوذهم تارة أخرى (15). ولكن من غير المؤكد أن يكون الجيش قادرا على الحفاظ على لعبة التوازن الصعبة تلك للأبد.

مع زيادة مساحة السجالات بين الحاخامات والجنرالات فإن الجميع في إسرائيل باتوا يدركون أن جيشهم اليوم يسير إلى تحوُّل درامي يدفعه الوجود المتزايد للصهاينة المتدينين الذين يعتقدون أنهم مُحِقّون في المطالبة بموطئ قدم وصوت أكبر في عملية صنع القرار، بل وفي صياغة قيم الجيش ذاتها، في وقت تتحوَّل فيه إسرائيل بأكملها إلى اليمين لتصبح أكثر دينية وأكثر تحفُّظا منذ تولي نتنياهو رئاسة الوزراء للمرة الثانية عام 2009، ضمن خطة مُمنهجة يقودها بنيامين لاستبدال النخبة الحاكمة في إسرائيل بنخبة “أكثر تديُّنا” لترسيخ موقعه في السلطة، وتأمين سياساته الرافضة للتقارب مع الفلسطينيين.

لا يجد وينتر، القائد الصهيوني المتدين، حرجا في أن يُصرِّح باعتقاده أنه يقاتل “عدوا يقف في وجه الله”، ومن الواضح أن تلك لم تكن زلة لسان كما قلَّلت من شأنها بعض دوائر الجيش، حيث دافع وينتر عن تصريحه في حوار لاحق مع مجلة “ميشباتشا” أو “الأسرة الأرثوذكسية”. في تلك المقابلة أكَّد وينتر أنه يرى أن الحرب هي أولا -وقبل كل شيء- قضية دينية، بل إنه -فجأة- قرر ارتداء ثوب اللاهوتي، مُتحدِّثا عن “معجزة” حدثت لجيشه عند القتال قُرب خزاعة، وهي قرية في قطاع غزة، حيث ادَّعى أن “سُحب النصر” قد لاحت حين أخفت غمامة كثيفة قواته الجرحى عن العدو، ويرى وينتر أن هذه إحدى حالات “التدخُّل الإلهي” لمنح جنوده النصر في المعركة.

يمكننا أن نُلخِّص القضية المطروحة اليوم إذن في أن تيارا يُحارب بـ “اسم الرب الإسرائيلي” يصعد اليوم بسرعة مذهلة لمصاف صناعة القرار في الجيش العبري. وهؤلاء لا يرون حروبهم مجرد دفاع عن وطنهم المزعوم، ولكنهم يعتبرونها نوعا من الوصية الإلهية المقدسة. وفي الوقت الذي لا يُنكر فيه الكثير من هؤلاء أن الصهيونية العلمانية لعبت دورا مهما في بناء بلادهم، لكنهم يرون أن الدافع العلماني لم يعد كافيا مع مرور الوقت.

بعبارة أخرى، بالإمكان وصف التحوُّل -تبسيطا- على أنه نوع من التوجُّه ما بعد الصهيوني، يتفق مع ثورة الـ “ما بعدية” في توصيف الظواهر السياسية. كان هناك شعور بأن الحركة الاستيطانية العلمانية تزداد تراخيا بشأن التزامها بالمسؤوليات العسكرية، وأنه آن أوان استبدالها، في تجلٍّ لنبوءة الحاخام إبراهيم إسحق كوك (17) الذي تحدَّث منذ عقود عن أن شرارة العلمانية الصهيونية لن تستمر طويلا، أو بمعنى أصح فإن القومية الصهيونية لن يكون بمقدورها الصمود أمام اختبار الزمن إذا لم يقدها يهود دينيون.

وعلى الطرف الآخر من الصراع، لا يتعلَّق مكمن الخطورة الأكثر إثارة للقلق حول تغلغل تيار المتدينين في جيش الاحتلال فقط بقضية المستوطنات وتداعياتها بقدر ما يتصل بالطبيعة العسكرية للكيان الإسرائيلي، حيث يتسلَّل الجنرالات السابقون إلى الأحزاب ويُحكِمون سيطرتهم على مقاليد السياسة (18)، بما يعني أن طريق “جنود الرب” أصبح اليوم مُمهَّدا لتشكيل وجه دولتهم كما أرادوها تماما، ليس فقط كونها وطنا قوميا لليهود، ولكن كونها إرثا إلهيا ضمنه الرب لشعبه المختار.

ميدان – الجزيرة

Share on whatsapp
Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on email
Share on print

رابط مختصر للمادة:

اقرأ أيضاً

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram
Share on email
Email
Share on print
Print

رابط مختصر للمادة: