هكذا حثت الشريعة الإسلامية على التراحم والتجاوز عن الغارمين المعسرين

هكذا حثت الشريعة الإسلامية على التراحم والتجاوز عن الغارمين المعسرين

عمّان – رائد صبيح

بعد وقف العمل بقانون منع حبس المدين وانتهاء الفترة القانونية لذلك أمس الأحد يترقب الشارع الأردني بحذرٍ ما سيتمخض عن ذلك من نتائج قد تكون لها تداعيات اجتماعية واسعة إذا ما تمّ تنفيذ القوانين التي تقضي بحبس المدين الذي يعجز عن سداد ديونه، وفي الوقت ذاته تتزايد الأصوات المطالبة بالتأكيد على مبادئ التراحم والتجاوز التي جاءت بها الشريعة الإسلامية والتي يعمل بها أبناء مجتمعنا من تقديم العون والنجدة لكل صاحب حاجة والتجاوز والصبر على كل معسر لا يجد سبيلاً لقضاء ديونه.

وفي هذا السياق حذّر أستاذ الشريعة الإسلامية الدكتور أحمد الشحروري من المخاطر الاجتماعية الكبيرة التي يمكن أن تنتج عن وقف تنفيذ قانون “منع حبس الغارمين”، مطالبًا المجتمع بضرورة التراحم فيما بينهم وتيسير سبل الحياة الكريمة لهؤلاء الغارمين المعسرين، كما أكدت الشريعة الإسلامية الغراء، حتى لا يسيروا لا قدّر الله في خطّ الجريمة.

وقال الشحروري في تصريحاته لـ “البوصلة“: على خلفية إعادة العمل بسجن الغارمين وإلغاء ما كان من توقيفه بسبب جائحة كورونا، الحقيقة فقد قرأت قولاً أنّه إذا وجدتم السارق يسرق باعتداءٍ ومن غير حاجةٍ فاقطعوا يده، وإن رأيتم السارق يسرق لحاجةٍ فاقطعوا يد الحاكم، والحقيقة هنا يتمثل الحاكم فيما أرى بالمجتمع كله، لأنّ المجتمع كله يحكم على هذا الإنسان بأن يسير في خطّ الجريمة ما لم ييسر له سبل الحياة الكريمة.

وتابع حديثه بالقول: “الحقيقة كذلك أن فقهاءنا نظروا نظرة جليلة جميلة إلى المعسر فمنع فريقٌ معتبرٌ من علمائنا صاحب الدين من أن يطالب المعسر بدينه، بل وعدوا ذلك حرامًا، لقوله تبارك وتعالى: (فنظرةٌ إلى ميسرة)”.

د. أحمد الشحروري: القادرون على سداد ديونهم ويرفضون ذلك يكسبون إثم قطيعة الأرحام والصلة بين الناس

إقرأ أيضًا: الشارع يترقب وقف “أمر الدفاع 28”.. ودعوات لإنشاء صندوق وطني لدعم المتعثرين

وشدد على أنّ المؤمنين مطالبون بأن يتراحموا فيما بينهم، “فمثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى”.

واستدرك الشحروري بالقول: إذن، نحن مطالبون أن نُنظِر المعسر وأن لا نضيق عليه وأن لا نكون نحن والظروف والدنيا عليه، وهذا من جهة.

وأضاف، “من جهة أخرى، ننشد الله عز وجل كل مدين مقتدر أن يبادر بسداد الدين، حتى يعمل عملين، أولاً يخلص رقبته من المطالبة بهذا الدين، وهو ذلٌ في النهار وهمٌ في الليل، فإذا كان مقتدرًا على السداد ولم يسد فقد اختار أضيق الطريقين في عيشه وحياته”.

وتابع بالقول: وأمّا الأمر الآخر، فلأنّ الناس بحاجة، وكل من أعطى ماله لطالبه فإنّه عندما يرفض الواجد الغنيّ أن يسد الدين، فإنه يسد الباب أمام فضلٍ ومكرمة من الناس، لأنّ هذا الدائن حينما يرى القادر على السداد يستعصي عن السداد يعزم على عدم تقديم ماله لطالبٍ أبدًا بغض النظر عن حاجته من عدمها”.

وختم حديثه لـ”البوصلة” بالتحذير من أن يصبح، من يملكون القدرة على سداد الديون ويرفضون ذلك، طريقًا من طرق منع التراحم بين الناس، واستنّ هؤلاء سنةً سيئة وهي قطيعة الأرحام والصلة بين الناس والبعد عن جبر الخواطر وفي هذا مأثمة لا تعادلها مأثمة، ونسأل الله العافية.

ما هو أجر الدائن الذي يسامح في حقه؟

وحثت دائرة الإفتاء الأردنية في فتوى صادرة عنها بالتسامح والتغافر والتجاوز عن الغارمين المعسرين، وبيّنت الأجر العظيم الذي ينتظر الدائن الصابر والمتجاوز.

وقالت الدائرة في الفتوى الصادرة عنها إنّ الديون حقوق مالية في ذمة المدين، والأصل أنه يجب أداؤها متى ما حلَّ أجلها، ولا يحلّ للمدين الموسر الذي يستطيع الأداء أن يماطل في أداء دينه متى ما كان قادراً عليه؛ فقد عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من الظلم فقال عليه الصلاة والسلام: (مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ) متفق عليه؛ كما أن الدين تبرع من الدائن للمدين بلا مقابل من زيادة على مبلغ الدين؛ فجزاء الإحسان بالتبرع بالدين ينبغي أن يكون إحساناً بالسداد بعدم المماطلة للقادر عليه وإلا امتنع الناس عن الإقراض لعدم الوثوق بالسداد، وفي ذلك من الضرر على الفرد والمجتمع والاقتصاد ما هو معروف لأهل الخبرة.

وأشارت الفتوى إلى أنّ الشرع جاء بوجوب أداء الدين متى ما حلّ أجله، وندب إلى كتابة الدين والإشهاد عليه حفظاً للحقوق، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ، وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}، وقال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282].

واستدركت الدائرة في فتواها بالقول: لكن قد يتعثّر المدين فتغلبه ديونه ولا يستطع سدادها بما تيسر له من مال، فهذا المعسر في عرف الشرع، وقد جاء الشرع الحكيم بحلول للمعسر منها أنه أوجب على الدائن أن ينظر المعسر عند حلول أجل دينه فيؤجّله لحين ميسرة إن ثبت إعساره، أو يسقط عنه الدين فيتصدق به عليه، ورتب على الصبر وإمهال المعسر أو التصدق عليه الثواب العظيم في الآخرة، يقول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة/280].

وبحسب الفتوى: قال الإمام النسفي رحمه الله: “{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة ذو إعسار {فَنَظِرَةٌ} فالحكم أو فالأمر نظرة أي إنظار {إلى مَيْسَرَةٍ} يسار ميسرة، {وَأَن تَصَدَّقُواْ}: أي تتصدقوا برؤوس أموالكم أو ببعضها على من أعسر من غرمائكم {خَيْرٌ لَّكُمْ} في القيامة، وقيل أريد بالتصدق الإنظار؛ لقوله عليه السلام لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:226]” [مدارك التنزيل 1/ 226].

وأكدت أنه بهذا جاءت السّنّةُ المطهرة، فعن النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: (كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ) متفق عليه.

وأشارت إلى أنّ من الحلول الشرعية التي جعلها الإسلام لمن أثقلته الديون دفع الزكاة للغارمين بشروطها الشرعية؛ لأنهم مصرف من مصارف الزكاة؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].

وقالت الفتوى إنّ الغارم هو من استدان لأمر مباح شرعاً وحل وقت الوفاء بالدين وعجز عن ذلك، فيُعطى من الزكاة ما يعينه على سداد ديونه الحالة.

وختمت الفتوى بالقول: وشعليه؛ فينبغي للناس بأن يتراحموا فيما بينهم، وأن يتصالحوا ويتسامحوا، ويعفو بعضهم عن بعض، ويقوم أحدهم بحاجة أخيه إن استطاع، وأن يمهل صاحب الحق من عليه الحق، وأن يتجاوز إن أمكنه. والله تعالى أعلم.

ومن الجدير بالذكر أنه بحسب البيانات الحكومية حتى نهاية شهر كانون الثاني الماضي، بلغ عدد المطلوبين بقضايا الديون المدنية (157367) شخصاً منهم (137715) شخصاً ديونهم أقل من عشرين ألف دينار.

(البوصلة)

Share on whatsapp
Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on email
Share on print

رابط مختصر للمادة:

اقرأ أيضاً

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram
Share on email
Email
Share on print
Print

رابط مختصر للمادة: