أسامة أبو ارشيد
Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on email
Email
Share on telegram
Telegram

رابط مختصر للمادة:

“الإسلام المدجّن” في خدمة الطغيان و”إسرائيل”

أسامة أبو ارشيد
Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on email
Share on telegram

رابط مختصر للمادة:

لا يخفى ذلك النقاش الحادُّ المحتدم عربياً وإسلاميّاً، منذ عقود، في دور الدين في الحياة الخاصة وفي المجتمع والدولة. وإذا كان التياران الأوسع في هذا النقاش يتمحوران حول طرفٍ ينادي بضرورة الفصل بين الدين والدولة، شرطا للتقدم، وآخر يؤمن بضرورة التمازج بينهما، على أرضية شمولية الإسلام، إلا أننا لم نعدم تجارب رسمية تدخّلت في مظاهر التديّن الشخصي البحتة، كما كان الحال في تونس وتركيا، ولا يزال هذا هو الحال في إيران، كما في موضوع الحجاب مثلاً. على أيِّ حال، انحازت غالبية الدول العربية والإسلامية القُطْريَّةِ في مرحلة ما بعد الاستقلال إلى الفصل بين الفضائين الديني والسياسي، وكثير منها إما أنها تبغُض ما يطلق عليها تيارات “الإسلام السياسي” وتضيّق عليها، أو أنها أطلقت حروب استئصال ضدها بهدف اجتثاث شأفتها. ورغم ذلك، يغفل المؤيدون لأطروحة الفصل بين الدينيّ والسياسيّ في السياق العربي الإسلاميّ مسألة شديدة الأهمية، أن جلَّ الدول العربية والإسلامية لا تفصل بين الفضائين أصلاً، إذ إنها تمارس، عمليّاً، نوعاً من التأميم للدين في سياق تعزيز شرعية الحكم، أو قل الطغيان. كما أنها توظّفه آلية إخضاعٍ ذاتي وتلقائي للجماهير المسحوقة، وهي في ذلك لا تعدم تياراً فكرياً دينياً واسعاً متواطئاً معها في تسويغ ذلك الإخضاع، وصولاً إلى تحويل الدين إلى “أفيون” للشعوب، كما كان حذر من قبل الفيلسوف الألماني كارل ماركس.

لا يهدف هذا المقال إلى الانخراط في الجدال الإيديولوجي في مسألة الفصل بين الدين والدولة، بقدر ما أنه يسعى إلى التنبيه من خطورة الصمت على تأميم النظام الرسميّ العربيّ الدين وتطويعه عبر مفكرين وعلماء مكرّسين لخدمة السلطان في التجاوز على حقوق الشعوب ومصالح الأمَة، بل وفي التعدّي على الدين ذاته. هنا، لا بد من مصارحة وجرأة، ثمَّة مفكرون وعلماء كثيرون قبلوا على أنفسهم المتاجرة بالدين والترزّق به، وهم في ذلك يشوّهون صورة الإسلام ويقدّمونه أنه دين “قدريٌّ” في سياق محاولة تجريع الشعوب الظلم والقمع والفساد والقبول بالتفاوتات الطبقية الصارخة. إنهم لا يتردّدون في الزعم أن هذا كله “قدرٌ ربانيٌ” لا يملك المسلم إلا أن يقبل به. ينطبق على مقاربتهم الدين ما قاله ماركس في كتابه “نقد فلسفة الحق عند هيغل”: “الدين هو زفرة المضطهد، وهو قلب عالم لا قلب له، وروح ظروفٍ لا روح لها. إنها أفيون الشعب”. إذن، الخطر الذي يمثله هؤلاء أن يتحوّل الدين بسببهم إلى مخدّر لآلام المستضعفين بدل معالجتها وإزالة أسبابها، فتبقى الشعوب تعاني السحق والتهميش والظلم، لكنها تأخذ أدوية مخدّرة لها، حتى لا تنفجر من شدة الأوجاع، وتهدم بنى الظلم والجشع والطغيان.

الداعي المباشر لكتابة هذه السطور حدث مرَّ عليه أكثر من أسبوع وكان في واشنطن. في العشرين من الشهر الجاري (سبتمبر/ أيلول)، كانت منظّمة يهودية صهيونية أميركية عتيدة تمنح “جائزة الكرامة الإنسانية” لعالم وفقيه مسلم مرموق. المنظمة هي اللجنة اليهودية الأميركية (AJC). أما العالم فهو الشيخ عبد الله بن بيه، رئيس منتدى أبو ظبي للسلام، ورئيس مجلس الشريعة الإسلامية في دولة الإمارات. المفارقات هنا كثيرة، ذلك أن المنظمة المانحة للجائزة التي تتّخذ من “الكرامة الإنسانية” عنواناً لها، هي أبعد ما تكون عن الإيمان بها والعمل من أجلها. تاريخ اللجنة المحرّض على الإسلام دينا، والمسلمين مؤمنين به، بمن فيهم المسلمون الأميركيون، فضلاً عن تأييدها ودعمها المطلق إسرائيل وعدوانها على الشعب الفلسطيني، موثّق ومعلوم.

تقدّم ” AJC” نفسها “منظمة عالمية للدفاع عن الشعب اليهودي”. وتضيف: “في جميع أنحاء العالم – من أروقة الأمم المتحدة في نيويورك، إلى أروقة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، وإلى دول آسيا – تدافع اللجنة اليهودية الأميركية عن إسرائيل على أعلى المستويات. وعندما تتعرّض إسرائيل لهجوم، سواء من المنظمات الإرهابية على عتبة بابها أم من حركة المقاطعة العالمية (BDS)، فإن اللجنة اليهودية الأميركية تساعد في إيصال الحقيقة حول إسرائيل إلى العالم”. هذا غيض من فيض من تاريخ هذه المنظمة المظلم والشرير، وبن بيه ومن يحيطون به في الولايات المتحدة مطّلعون عليه وقد تمَّ تحذيرهم مراراً وتكراراً سنوات. وللأسف، يبدو أنهم منخرطون برضىً تام في مشروع رسميٍّ لدولة عربية لا تسعى فقط إلى تأميم الإسلام وترويضه، بل، وهذا الأخطر، إلى تمييعه وفرض نسخةٍ منه مكذوبةٍ ومشوّهة توظفها خنجراً مسموماً يمزّق الجسد العربي والإسلامي، عوض أن يكون عاملاً في توحيده.

حتى لا يتهم بعضهم كاتب هذه المقالة، كما حصل من قبل، بأنه يختزل قضايا الأمة العربية والإسلامية في فلسطين، فإنه يقدّم هنا بعض أمثلة على دور هذه المنظمة في صناعة الإسلاموفوبيا. وبالمناسبة، شاء بعضهم أم أبوا، فإن بوصلة المنظمّات الصهيونية، حتى وهي تدفع بكراهية الإسلام والخوف منه في الغرب، تنحصر في إنشاء “جدار حماية سياسي حول إسرائيل”، حسب تعبير “Reut Group” (مجموعة ريوت)، والتي تعرّف نفسها منظمة أبحاث في خدمة إسرائيل، مقرّها تل أبيب. ما يلي من نقاط سريعة موثقة، هي على سبيل المثال.

في عام 2002، كتب الرئيس السابق للجنة اليهودية الأميركية، ديفيد هاريس، أن العرب والمسلمين في الولايات المتحدة يشكلون “تهديداً مادياً” لليهود؛ وأن النمو الديمغرافي للمسلمين الأميركيين يشكل “تهديداً سياسياً طويل الأمد”. قبل ذلك، وبعد هجمات 11 سبتمبر (2001)، في نيويورك وواشنطن، وجّه هاريس بإجراء إحصاء خاص للمسلمين الأميركيين في محاولة لتشويه سمعة ما يقدر بنحو ستة إلى ثمانية ملايين مسلم يعيشون هناك. وحسب تقرير لـ “أسوشييتد برس”، نشر بعد الهجمات، كان هاريس قد كتب في مجلة اسمها “جيروزاليم ريبورت”: “ستة ملايين لها صدى خاص.. يعني ذلك أن عدد المسلمين يفوق عدد اليهود في الولايات المتحدة، وسيدعم بالتالي الدعوات لإعادة تعريف التراث الأميركي على أنه يهودي- مسيحي- مسلم، وهو هدف معلن لبعض القادة المسلمين”. ليس هذا فحسب، فقد دعمت هذه المنظمة “قانون الوطنية” الذي أصدرته إدارة جورج بوش الابن، وبموجبه تعرّضت الحقوق المدنية والدستورية للمسلمين الأميركيين لانتهاكات فظيعة. وفي المقابل، عارضت إلغاء قانون الأدلة السرّية الذي كان سيفاً مسلطاً على رقابهم. كما دعمت مراقبة أجهزة الأمن لهم. فضلاً عن مشاركتها في جلسات استماع في الكونغرس حول “تطرّف المسلمين الأميركيين” والتي ذكّرت بـ”الحقبة المكارثية” في الولايات المتحدة في خمسينيات القرن الماضي. أيضاً، ساهمت “AJC”، كذلك، في إنشاء منظّمة طلابية صهيونية في الجامعات الأميركية تحت لافتة “مشروع ديفيد”، وكانت هذه المنظمّة تعقد مؤتمراً سنوياً بعنوان “أسبوع التوعية بالفاشية الإسلامية”. ولا ننسى هنا أن شخصيات عتيدة في عدائها الإسلام سبق وأن تلقوا جوائز تكريم من اللجنة اليهودية الأميركية، مشابهة للجائزة التي منحتها لابن بيه، أمثال دانييل بايبس، وستيف أميرسون، ووفاء سلطان، وأيان حرسي علي.

رغم ذلك التاريخ المشبَّع بالظلمة والشر، لم تتردّد بعض المؤسسات والشخصيات الإسلامية الأميركية، من المحسوبين على دولةٍ عربية بعينها، من تشكيل “المجلس الاستشاري اليهودي-الإسلامي”، أواخر عام 2016، بذريعة الهاجس المشترك جراء انتخاب دونالد ترامب رئيساً. النكتة السمجة أن ذلك المجلس حدد أهدافه الأساسية في: “تسليط الضوء على مساهمات المسلمين واليهود في المجتمع الأميركي.. تطوير استراتيجية منسّقة لمعالجة التعصّب المناهض للمسلمين ومعاداة السامية في الولايات المتحدة. العمل على حماية وتوسيع حقوق الأقليات الدينية في الولايات المتحدة، على النحو المنصوص عليه في الدستور، حتى يتمكّنوا من ممارسة شعائرهم الدينية بحرية وأمان كاملين”. فقط للتذكير، كل ما يتعلق بالمسلمين في هذه الأهداف هو بالضبط ما عملت ” AJC” ضده دائماً، ولكنها نجحت في تحقيق هدفها المركزي، المشار إليه سابقاً، إنشاء “جدار حماية سياسي حول إسرائيل”، إذ لم يكتف شركاؤها من المسلمين في المجلس بالصمت على جرائم إسرائيل بحقّ الفلسطينيين، بل إنهم تحوّلوا إلى اعتذاريين عنها، يحجّون إليها كل عام مرّة أو مرّات كثيرة، ويناصبون كل من يدافع عن الحقوق الفلسطينية في الولايات المتحدة العداء، حتى لو كانوا يهوداً. هؤلاء هم الناس الذين أحاط بن بيه نفسه بهم، وهم ساهموا في توريطه في هذا العار، من دون أن ننسى، وهذا الأهم، دور تلك الدولة العربية التي تخطّط وتمكن لذلك كله.

وفي سياق المفارقات الهزلية، أن تشير “AJC” في أسباب تكريمها بن بيه إلى تزعّمه صياغة “ميثاق حلف الفضول الجديد”، والذي أعلن في أبو ظبي، عام 2019، ووقّعته مؤسّسات ومنظمات وشخصيات مسلمة ومسيحية ويهودية، من ضمنها اللجنة اليهودية الأميركية. طبعاً، كانت تسمية الميثاق “حلف الفضول الجديد” محاولة لاستلهام تجربة “حلف الفضول” في مكّة المكرمة، والذي حضره الرسول عليه السلام، قبل بعثته، وتعاهدت فيه بعض قبائل قريش على “أن لا يظلم أحد في مكة إلا ردّوا ظلامته”. أما المفارقات الهزلية هنا، فيتمثل بعضها في أن “ميثاق حلف الفضول الجديد” ينصّ على ضرورة أن تراعي الحكومات “كرامة الإنسان والعدل”، مع أن بن بيه من الذين يقرّرون أن “وليَّ الأمر” ليس بالضرورة أن يكون الأصلح، وإنما من يملك بـ”الغلبة”، ومن ثمَّ فإن طاعته “فرض”، حتى لو ظَلَمَ.

أيضاً، ينصّ “ميثاق حلف الفضول الجديد” على أن “البواعث التي تدعو” إليه تشمل “الحالات المتزايدة حول العالم للاضطهاد الديني والتمييز على أساس الدين أو المعتقد، والاعتداء على أماكن العبادة والمؤمنين الذين يرتادونها، كما جاء في قرار الأمم المتحدة رقم 16/ 18 لعام 2011 الذي يدين أي دعوة إلى الكراهية الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف”. وينصّ كذلك، على “مبدأ السلم… باستثناء حالة الدفاع عن النفس”. وهنا ثلاثة أسئلة. تُرى، هل كان بن بيه يدرك، وهو يتسلّم “جائزة الكرامة الإنسانية” من اللجنة اليهودية الأميركية أنها “تدعم الاضطهاد الديني والتمييز على أساس الدين أو المعتقد، والاعتداء على أماكن العبادة والمؤمنين الذين يرتادونها”، وهي الأمور التي تمارسها إسرائيل بحقّ الفلسطينيين، فضلاً عن مناصرتها الاضطهاد الديني ضد المسلمين في أميركا؟ وهل تراه يعلم عن الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّّرة على المسجد الأقصى، ثالث مقدّسات المسلمين، وهل يمكن له أن يحيلنا إلى موقف صريح له من ذلك، منذ أن انتقل إلى العيش في الإمارات، عام 2013؟ وهل يرى بن بيه أن “الاستثناء” في “مبدأ السلم” المتعلق بـ”حالة الدفع عن النفس” ينسحب على الفلسطينيين، أم أن مقاومتهم تطرّفٌ وإرهاب، وهي المصطلحات التي يحب أن يعيدها ويكرّرها؟

يشدّد القرآن الكريم على أن العلم في الإسلام مسؤوليةٌ وتكليف، لا تباهٍ وتشريف: “الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ” (الأحزاب: 39). وجاء في الحديث الشريف: “إن العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر” (رواه الترمذي وغيره). تلك هي وظيفة العلماء، الوقوف دفاعاً عن الحقّ والعدل، وحقوق الناس، لا عن الجور والطغيان والتسلط. “لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ” (المائدة: 63). أما من يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، فهم مصدر فتنة وأذى يلحقونه بأمتهم وأنفسهم كذلك. من ثَمَّ، لا يهم موقفك من “الإسلام السياسي”، مؤيداً أم معارضاً، لكن الصمت عن “الإسلام المؤمّم” و”الإسلام المدجّن” ففيه خيانة للدين وخيانة لمصالح وحقوق شعوبنا وأمتنا.

(العربي الجديد)

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on email
Share on telegram

رابط مختصر للمادة:

Related Posts