حسام شاكر
Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on email
Email
Share on telegram
Telegram

رابط مختصر للمادة:

ماذا يخبرنا مونديال قطر عن حالة الإسلاموفوبيا في أوروبا؟

حسام شاكر
Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on email
Share on telegram

رابط مختصر للمادة:

ليست دورات كأس العالم لكرة القدم مناسبات رياضية وحسب. إنها حقيقة تجلّت من جديد في مونديال قطر، الذي كان موسماً للتفاعل بين الشعوب والاقتراب الوجداني من جزيرة العرب وعالم المسلمين من بوابة عريضة لم تُفتح من قبل على هذا النحو. وشهد المونديال، زيادة على ذلك، تفاعلات ذات طابع استقطابي وتأجيجي من بؤر أوروبية معيّنة تخللتها أمارات انزعاج حتى من تنظيم الحدث العالمي الضخم في دولة عربية استنفرت إمكاناتها لإنجاحه حتى صار “أفضل نسخة من كأس العالم”، حسب شهادة قيادة الفيفا.

تدحرج التفاعل الأوروبي مع هذا الحدث الرياضي إلى حالة تسخين مفاجئة تضافرت في إذكائها دعاوى شتّى افتقرت إلى الانسجام في ما بينها. فحمّى النقد المُسدّد إلى تنظيم هذا الحدث العالمي الضخم، على خلفية وجهته الخليجية العربية المسلمة تحديداً؛ اختلطت فيها استدعاءات حقوقية ومزاعم مالية وتحفّظات ثقافية وتوجّهات اجتماعية واعتراضات من أصناف أخرى عدّة يصعب ضبطها. أفصح متحدِّثون أوروبيّون في شاشات وشبكات علناً عن انزعاجهم من أنّه “مونديال يبدو مختلفاً هذه المرّة”. تشي هذه العبارة المُبهَمة، التي تردّدت في أوروبا بوفرة خلال موسم كأس العالم 2022، بجانب مركزي من التحسّس الأوروبي من الحدث؛ يتمثّل – حسب المؤشِّرات – بموقف مناهض للتعدُّدية الثقافية في عالم واحد. ولا يُستبعد أن تحضر ضمن بواعث التحامُل لدى بعضهم ضد “مونديال العرب” مواقف نفسية غير سوية في بلدان اعتادت استضافة هذه الأحداث الكبرى، وإذ بها تتابع انزياح أضواء العالم نحو وجهات أخرى لم تكن متوقّعة، وأنّ العالم العربي الذي ارتبط بالحروب والأزمات صار وجهة لأبرز حدث جماهيري عالمي تواكبه أمم الأرض بينما تنشغل أوروبا بإدارة الحرب الطاحنة التي تدور رحاها على أراضيها وتتراكم أعباؤها على كواهل شعوب القارّة.

لا ينبغي إعفاء أيّ حدث عالمي كهذا من النقد، وينبغي أن تبقى “الفيفا” وعموم الثقافة الاستهلاكية المتذرِّعة بالرياضة، في دائرة التمحيص والمساءلة النقدية بلا هوادة. ويجدر التنبيه أيضاً إلى أنّ الاعتراضات التي سُجِّلت من أوروبا بشأن هذا المونديال لا يصحّ دمغها بالتحامُل بصفة تعميمية، وإن استغلّتها إطلالات تحريض أو حملات تشويه، وإن كان منتظراً أن يكون الحسّ النقدي الداخلي أكثر جرأة في التعبير عن ذاته ضد حالة الاستنفار غير العقلانية في بعض البيئات الأوروبية ضد هذا المونديال تحديداً. على أنّ التحامُل هو الوصف المخفّف الذي يليق ببعض ما شاب حالة الاستنفار المضادّة لحدث المونديال هذا، ومن أمارات ذلك الدفع بمزاعم غير موثّقة والمبالغة في تحيّزات النصوص والتعليقات والصُّوَر والمَشاهد؛ كما اتّضح مثلاً مع الإتيان بمشاهد مجتزأة انتقائياً أو ملفّقة تعسّفياً في مسعى البرهنة على حُكم مُسبق، مثل تصوير مشجعين رجال دون غيرهم واعتبار ذلك دليلاً على الطابع “الذكوري” للمونديال أو للمجتمع المضيف!.

من واقع ما جرى أنّ حملات مناهضة مونديال قطر فرضت اتجاهات التناول والنقاش مُسبقاً في بعض البيئات الأوروبية، فخيّمت حمّى التهويل والتأجيج وإثارة المشاعر على الموسم الكروي العالمي، وتوارى ناقدو حالة الانجراف هذه عن المشهد أو تدخّلوا بالتعليق على استحياء، حتى أنّ الائتلاف الحكومي الألماني الثلاثي (ديمقراطيون اجتماعيون وخُضر وليبراليون)، غير المتماسك في مواقفه وتعبيراته أساساً؛ أظهر تردّداً وارتباكاً في التعامل مع هذا التصعيد الداهم الذي لا ينسجم مع مصالح برلين الحيوية مع الدوحة. هكذا بقيت آراء مُغايرة لحمّى المُزايدة معزولة في هامش المشهد، كما هي عادة وصلات التسخين في إلجام النقد وكبح الاعتراضات، حسب ما تصفه نظرية “دوّامة الصمت” مثلاً، وتجلّت بعض شواهد ذلك للعيان خلال التحامُل على موسم كأس العالم لارتباطه بالعرب والمسلمين هذه المرّة على ما يبدو.

تكشف هذه الحالة النقاب عن سيرة مبالغات تفرض هيمنتها على الاهتمامات العامّة والذائقة الجمعية، فتُفضي إلى إسكات الناقدين وإقصائهم عن صدارة الجدل العام عندما يُمسِك فرسان التأجيج بخطامه في مواسم الشحن السياسي والتعبئة الإعلامية والهواجس الثقافية والتهديدات الأمنية والأزمات الاقتصادية. وقد تميّز تناول شؤون الإسلام والمسلمين في البيئات الأوروبية، منذ مطلع القرن الحادي والعشرين – وإن لم تكن البداية معه – بأنّه جاء غالباً ضمن منعطفات الجدل السياسي والإعلامي والثقافي، التي استبدّت بها مسارات حادّة أحياناً. ثمّ جاءت المفاجأة بأن تتحرّك هذه التعبئة في مواجهة حدث رياضي أخّاذ اعتاد العالم التصفيق له شهراً بحياله، بعد إعفاء تجارب الاستضافة الرياضية الأخرى من مثل هذا تقريباً. 

بدا التصعيد الأوروبي الذي اندلع في وجه مونديال قطر وفيّاً لتقاليد دأبت عليها مواسم الجدل الداخلية في العديد من بيئات القارّة بشأن الإسلام والمسلمين منذ مطلع هذا القرن، أو منذ هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 تحديداً. ألْهَبَت حالة التسخين التي رُصدت في بعض البيئات الأوروبية مزايدات في التحامل الطافح على هذا المونديال تحديداً، فتجاوزت الحالة المنسوب النقدي الذي يمكن استيعابه والتعامل معه أخذاً وردّاً، وأدّى منحى الذمّ المتصاعد إلى إلجام أصحاب الآراء المُغايرة وكبح الحسّ النقدي إزاء هذه المُزايدات.

كان مما ادّعاه بعضهم في منصّات إعلامية وشبكية ألمانية مثلاً؛ أنّ “قطر اشترت المونديال!”. تبدو المشكلة هنا هي استسهال ترديد زعم مُقتضب دون الإتيان ببراهين جليّة، ويبلغ العجب مبلغه مع تعمُّد معلِّقين ألمان، طاب لهم ترويج هذا الاتهام عن “المونديال الذي يغلب على الظنّ أنه اشتُري!”. فقد حرص هؤلاء على إغفال الملاحقات القضائية المدوِّية في ألمانيا ذاتها بشأن “شراء” مونديال 2006 الذي استضافته الجمهورية الاتحادية.

ثمّ إنّ بعض المبرِّرات التي سيقت في الهجوم على مونديال قطر تصلح في الواقع لاستهداف نسخ كأس العالم عموماً، السابقة منها واللاحقة، وكذلك نسخ الأولمبياد، ومنها مونديال روسيا 2018، ودورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين في 2022. يشي هذا المسلك المتحامل بمنطق استثنائي في تناول الوقائع، يكشف عن تحيّزات كامنة، على نحو يوحي بأنّ مشكلة القوْم قد تكون مع الهُويّة أساساً لا في السلوك المُنتقَد ظاهرياً؛ أي مع “مَن فعل” وليس مع “ما فَعل”. يصير إصبع السبّابة، على هذا الأساس، عريضة تشهير إعلامية بدعم التطرف والإرهاب إنْ رفعه لاعب مسلم بعد تسديد الهدف؛ ولا يستثير الأمر أيّ شكّ إن جاء من أقران آخرين.

لا ينبغي التهوين من النزعة الانتقائية التي تستفرد بطرف محدّد أو مكوِّن بعينه به دون غيره فتعدّه استثناءً، وهي تنتزع أشخاصاً محدّدين أو أشياء أو موضوعات بعينها من سياقاتها، ولا تفعل مثل هذا مع أطراف أو مكوِّنات أخرى. إنّ سوء الفهم أو إساءة التأويل، على ما فيهما من تجاوُز، هما بمثابة مشكلة لاحقة، لأنّ المعضلة التأسيسية قد تكمن ابتداءً في الانتقاء والاستثناء. إنّ عملية الشيطنة ونزع الصفة الإنسانية، التي تتوجّه ضدّ أناس مُحدّدين، أو ضدّ ثقافات أو أديان بعينها، كما يتجلّى في بعض مظاهر الإسلاموفوبيا، وثيقةُ الصلة بتعريف فئة بعينها أو ثقافة محدّدة أو دين ما بصفة انتقائية واستثنائية والإمعان بالتالي في حمّى الذمّ والتشويه والتحريض. ومن شأن هذا أن يمهِّد السُّبُل لتسويغ استبعاد الفئة المُستهدَفة من معايير وامتيازات وحقوق وحرِّيات يُفترض أنّها سابغة على الجميع في الأساس، فمن يقع عليهم الاستثناء قد تسري عليهم إجراءات أو مقاييس خاصّة وقد يصير هؤلاء عرضة للاستهداف المادي أو المعنوي تبعاً لذلك.

بدا المتحاملون في أوروبا على تنظيم العرب مونديال 2022 أوفياء لنزعة استعمال القيَم والمبادئ ذريعة لتبرير ما لا ينسجم مع قيم ومبادئ بعينها؛ إلى حدّ التعارض والتناقض أحياناً. ومن عادة خطاب التذرّع بالقيَم هذا أن يحتجّ بها لتسويغ تصوّرات وأحكام أو مواقف ومسالك تقوم على التحامُل والكراهية والأحقاد بشكل عامّ، بما في ذلك ما يمسّ المسلمين ودينهم وثقافاتهم مما يندرج عموماً ضمن مفهوم الإسلاموفوبيا. وتتجلّى في خطاب التذرّع بالقيَم إشاراتٌ صريحة أو ضمنية إلى قيَم ومبادئ بعينها، وغالباً ما تُستدعى لنفيها عن الفئة التي يستهدفها التحامُل أو تتوجّه إليها الكراهية أو تُثار في وجهها الأحقاد، وقد يُلازم ذلك تعريفَ الذات وتحديدها دون “الآخر” الذي تُتيح هذه الحيلة إظهار التفوّق القيمي المُتصوّر عليه، مع احتكار تأويل القيَم المستدعاة انتقائياً على نحو يخدم سرديّات التحامُل هذه؛ من قبيل ما شهده المونديال من استعمال شعارات “التنوّع” و”حُبّ واحد” و”حرية التعبير” مثلاً. ومن تقاليد خطابات التذرّع بالقيم أنها تأتي في سياقات من شأنها أن تضرب قيماً أخرى، كالاحترام المتبادل، واحترام التعددية الثقافية، ونبذ الوصاية والتعالي، ومواجهة الازدراء، وغير ذلك. بل قد تُوضَع القيمةُ ذاتها أو المبدأ عينه، في مقام من شأنه أن يأتي عليها هي؛ كما تجلّى مع شعارات “التنوّع” التي تدثّر بها منحى الإملاء الثقافي المدفوع بنزعة أحادية مركزية خلال الحملة ضد المونديال. وقد شهدت بيئات أوروبية من قبل إسرافاً في اتخاذ حرية التعبير والحقّ في النقاش وإبداء الآراء النقدية، ذرائع واهية لازدراء الأديان وتدنيس المقدّسات، أو تشويه الثقافات وممارسة التحريض بحقّ أخوة الإنسانية أو شركاء المجتمع، فضلاً عن بثّ خطاب الكراهية وإشاعة الأحقاد، والإساءة إلى مشاعر أتباع الأديان المُستهدفة، وكان لهذا مفعوله في تسخين حالة الإسلاموفوبيا.

ومن وظائف القيَم والمبادئ في هذا الخطاب وظيفة الاحتماء بها أو التحصّن بمقولاتها دفعاً لوصمة العنصرية والكراهية والتحامل؛ بل واكتساب سِمَة أخلاقية ومبدئية على نحو يجعل خطاب التذرّع بالقيم مؤهلاً لتمدُّد الإسلاموفوبيا وتمكينها من تثبيت أقدامها حتى في منصّات ومواقع محسوبة على “الانفتاح” و”الاعتدال”.

اغترف بعض المتحاملين على استضافة المونديال في بلد عربي من استدعاءات ثقافوية تشبّعت أحياناً بنظرة تعالٍ، حتى بلغ الأمر حدّ ازدراء حفاوة لاعبي منتخب المغرب بأمّهاتهم في إطلالة تلفزية دانمركية. غابت هذه النبرة المتحاملة عندما نزلت “أمّ ميسي” إلى المستطيل الأخضر وعانقته بحرارة بعد انتزاع الكأس ثم التأمت أسرته معه تحت أضواء الإعلام العالمي في الرقعة ذاتها لمعايشة مجد اللحظة.

ومع صعود المنتخب المغربي إلى دور نصف النهائي صار لاعبوه تحت بقعة ضوء تعقّبتهم وذهبت إلى حدّ إساءة تأويل إطلالاتهم المصوّرة، من قبيل اعتبار رفع بعضهم إصبع السبّابة بمثابة شبهة داعشية، كما ورد في تقرير تحريضي بثّته قناة “فيلت” الألمانية. لا يبدو هذا التقرير الصادم استثنائياً على أي حال بالنظر إلى سياقات أوروبية داخلية تُغري بنسج تأويلات مشوّهة إزاء بعض المظاهر والأحداث ذات الصلة المفترضة بالمسلمين. يتجلّى من هذا الوجه أيضاً كيف يبدو الجدل الأوروبي بشأن مونديال قطر وفيّاً لمنطق ينغلق على الذات دون العالم؛ أو هي المركزية الأوروبية النمطية بالأحرى.

شُحِن مونديال قطر بالأمل في “تصحيح صورة العرب والمسلمين” وتحريرها من هيمنة القوالب النمطية والأحكام المُسبقة السلبية، وهو أمل انطلق من مفعول الحدث الرياضي الأبرز عالمياً بالنسبة للصور الذهنية ومنسوب الاكتراث الأممي وما يتيحه من فرص مُعايشة جماهيرية استثنائية، لكنّ ذلك الأمل المُحِقّ يستدعي جملة من الاستدراكات. فالصورة الذهنية عن “الآخر” متأثِّرة بحاملها أيضاً وبمنظوره نحو العالم عموماً ولا تقتصر على واقع هذا “الآخر” وحسب، وقد تكون الصورة الخاطئة نتاج مفهوم سقيم عن هذا الآخر، كأن تتشبّع بالتعالي عليه وازدرائه مثلاً. ويُفترض بتصحيح الصورة أن يكون عملية تفاعلية متعدِّدة الأطراف يحرص عليها من يحملون تصوّرات غير سوية عن الآخرين بالأحرى، وهذا ما تمليه مقتضيات الإنصاف والنظرة الواقعية الأمينة إلى المكوِّنات الإنسانية التي تتشارك عالماً متعدِّد الثقافات. وتتدخّل في هذا الشأن نسبية الصواب والخطأ أو الحُسن والقُبح في وعي مجتمعات البشر، فما يُعتبر إيجابياً في بيئة معيّنة قد يُعدّ سلبياً في غيرها، والعكس صحيح أيضاً، وقد لا يبلغ “تصحيح الصورة” مقصده بالتالي على هذا الأساس أو قد ينقلب إلى حالة تتملّق توقّعات حامل الصورة في ذهنه أو تحاكيه في نمطيّاته أو تُحابي تفضيلاته. ثمّ قد نكتشف أنّ “تصحيح الصورة” عند بعضهم لا يتجاوز حدود “صورتنا عند الغرب”، أو أنّهم يختزلون العالم في ضفّتي شمال الأطلسي تقريباً، فلا يُكترث مع هذا الانصراف صوب المركز الغربي بوجهات أخرى في عالم واحد تختلف ألسنته وألوانه وتصوّراته. ثمّ إنّ سوء الفهم أو إساءة التأويل يتدخّلان أحياناً لإفساد الموقف وإعاقة الفرص المتاحة للجمهور في استيعاب مظاهر إيجابية محمولة من بيئات أخرى، أو تفرض القوالب النمطية والأحكام المسبقة سطوتها على هذا الاستيعاب فتُعَكِّر صفوه وتطبعه بطابعها. ومن شأن تدخُّل سوء الفهم أو إساءة التأويل أن يتواطأ مع تفكير رغائبي يُحيل مكتسبات أخّاذة يُحرزها “الآخر”، العربي هنا، إلى اعتبارها نتيجة منطقية لمحاكاة الغرب مثلاً وعزلها عن منطلقاته الحضارية الذاتية؛ ومنها ثقافته ودينه، أو قد يؤتى بسرديّات استغلال العمالة الوافدة في مقام التفسير السهل لوجوه تقدّم مشهودة ابتغاء نزع التقدير عنها.

يجوز الافتراض في هذا السياق أنّ مسعى مقاومة “تصحيح الصورة” كان لها مفعولها في إذكاء حالة الاستنفار الأوروبية في مواجهة مونديال قطر الذي مثّل تهديداً لتصوّرات معيّنة عن العرب والمسلمين، وحتى عن الخليج ذاته، فهذا التحامُل قد يُعدّ مؤشِّراً إيجابياً من هذا الوجه إن كشف في انزلاقاته غير العقلانية عن زعزعة مفاهيم بقيت مستقرّة طويلاً في بيئات أوروبية – غربية لها تأثير مركزي على العالم بأسره. لم يحتمل بعضهم، على الأرجح، رؤية جماهير المشجِّعين من أنحاء العالم وهي تتكيّف بتلقائية مع الملابس العربية التي ازدرتها أفلام وشاشات ورسوم كاريكاتير غربية طويلاً، ولم يَطِب للمتحاملين على اختيارات النساء والفتيات المسلمات من اللِّباس أن يلحظوا غطاء الرأس، الذي هو “الفولار” أو “الكوبفتوخ” المحظور في مواقع تعليم وعمل أوروبية ويُعدّه بعضهم من مظاهر “الإسلام السياسي” و”الانفصالية الإسلامية”؛ وهو يتصدّر مشاهد مونديالية أخّاذة. وما يكون من أمرهم وقد برز لهم نجم الكرة الساطع في هيئة “شيخ نفط عربي” يتبختر زهواً بانتصاره على المنصّة، على نحو أطلق موجة حانقة على “البشت” بمزاعم ساذجة، مع تجاهل السلوك الترحيبي الذي أبداه النجم العالمي ومنتخبه وجماهيره بهذه اللفتة التكريمية.

لا تقدِّم القوالب النمطية تصوّراً موضوعياً عن الواقع وأطرافه، إذ يُفهَم من خلالها الواقع والعالم والتاريخ من منظور ذاتيّ متحيِّز بطبيعته، يأتي مبسّطاً ومُختزَلاً، فيُتاح المجال لنشوء أحكام مُسبقة، ذات منزع تعميمي سابغ. ولا غنى للخطابات العنصرية وتعبيراتها، كما لاتجاهات الإسلاموفوبيا، عن الاغتراف من القوالب النمطية والتمادي في الأحكام المُسبقة، في مناحٍ سلبية ومُسيئة. وبهذا؛ تستدعي الإسلاموفوبيا وفرة من القوالب النمطية والأحكام المسبقة، وتعمد إلى توظيفها في خطاباتها وتعبيراتها، وإن لم تندرج كثير من هذه القوالب والأحكام في أصلها ضمن نزعات العنصرية أو الإسلاموفوبيا.

لكلّ أمّة قوالبها النمطية، وهي بمثابة تصوّرات أحادية جامدة عن أمم وثقافات وفئات من البشر بمن فيهم شركاء البيئة ذاتها أو المجتمع المشترك، علاوة على أنّ هذه القوالب حاضرة في تصوّر الذات ومحاولة فهمها وتحديدها. تحقِّق القوالب النمطية حاجات متعددة، منها تبسيط الواقع واختزاله، ووضع حدود للوعي بالذات الجمعية وبالآخرين، وتقديم تعريفات محدّدة للهوية والانتماء، والتعبير عن نزعة الافتراق والتمايز بين المكوِّنات الإنسانية، وتفسير وجوه التفاضل القائمة أو المتصوّرة في المجتمعات والفضاء الإنساني، علاوة على دورها في تأويل التاريخ ضمن السردية الخاصة بالمجتمع والأمة.

برهنت كثير من القوالب النمطية على قدرتها على البقاء أو إعادة إنتاج نفسها عبر القرون، وترسّخت معها أحكامٌ مُسبقة في أعماق الوعي الجمعي للمجتمعات والأمم عبر الأجيال. ولم تتحرّر آفاق التواصل الإنساني المتجدِّدة عبر الدوائر الحضارية والثقافية من بعض أغلال الماضي وانطباعاته الساذجة، بل ربّما تورّط فاعلون في حقول التواصل والإعلام والمعرفة، علاوة على سياسيين وأيديولوجيين وبعض مراكز التأثير، في تكريس صور كريهة مُختَلَقة أو مُشوّهة، فبرزت مخاوف قديمة بقوالب جديدة، كما وجد التحاملُ والتعصّب باستمرار؛ ميادينَ مُستحدَثة للتمادي في العبث والتشويه، من عهد المطبعة إلى زمن البثّ الرقميّ والتشبيك.

إنّ القوالب النمطية والأحكام المسبقة إذ هي متجذِّرة في الذاكرة الجمعية للمجتمعات والأمم؛ فإنها تشير بحدِّ ذاتها إلى صعوبة، أو شبه استحالة، اجتثاث ظواهر العنصرية والتفرقة والإسلاموفوبيا بالكامل، لأنها تتغذى أساساً من تلك القوالب الغائرة في الوعي وتصدر عن أحكامها المسبقة. وقد تستيقظ هذه القوالب والأحكام الكامنة في ذاكرة المجتمعات إنْ استثارتها تطوّراتٌ معيّنة وأذكتها خطاباتٌ موجّهة كالتي تعمد إليها “صناعة الإسلاموفوبيا” ومنظومات التشويه والتحريض.

يكشف ذلك، في المقابل، عن أنّ التعامل مع الإسلاموفوبيا ومعالجتها، يقتضي التصدي لتلك القوالب بمحاولة تحييدها والحدّ من مفعول الأحكام المسبقة، وتنوير المجتمعات بما تنطوي عليه من منطق ساذج ونزعات اختزال وتسطيح، واستثارة الحسّ النقدي في مواجهتها، والحذر من دورها في تفاقم الاستقطابات غير الصحية والظواهر العنصرية الظاهرة والمُستترة، فهي قد تمثِّل أساساً عليها تنهض أو بيئة حاضنة منها تتفرّع.

لعلّ الرسالة المركزية التي يجدر استخلاصها من حمّى التحامل والتسخين التي واكبت بها بعض أوروبا “مونديال العرب”، أنّها مؤشِّر على مدى ترحيب أوساط في العمق الأوروبي بواقع التنوّع واحترام الاختلاف في عالم واحد، رغم استعمال شعارات “التنوّع” و”الحبّ” خلالها. ويبقى الاستنتاج بأنّ هذه الاندفاعة الرمزية الهوجاء في وجه العرب والمسلمين عن بُعد لا تمنح انطباعاً بالانفتاح الداخلي عليهم في بعض البيئات الأوروبية، التي صارت فيها الإسلاموفوبيا ثقافة عامّة تحفِّزها صناعة تأجيج مكرّسة لذلك، مع كل العواقب التي يجرّها هذا التفاقم على السياسات والممارسات والمداولات.

(البوصلة)

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on email
Share on telegram

رابط مختصر للمادة:

Related Posts