“المدينة الجديدة الذكية”.. مخاوف ومحاذير متعددة وأسئلة مشروعة بلا إجابات

“المدينة الجديدة الذكية”.. مخاوف ومحاذير متعددة وأسئلة مشروعة بلا إجابات

عمّان – رائد صبيح  

أثار إعلان الحكومة عن موقع “مشروع المدينة الجديدة الذكية” التي تنوي إقامتها، وستسهم فيها بتحمل تكاليف تصل إلى 8 مليارات دينار، مخاوف عديدة من جدوى هذا المشروع وانعكاساته على مديونية الدولة الكبيرة، فضلاً عن انتقادات عديدة لعدم استشارة الحكومة للخبراء، واحتمالية تكرار نماذج فاشلة في هذا السياق على الصعيد المحلي والعربي، وترك أيضًا أسئلة مشروعة كثيرة ومفتوحة ما زال يلفها الغموض وبحاجة لإجاباتٍ وتفسيراتٍ حولها.

مخاوف الجدوى والعائد

وقال الخبير الاقتصادي حسام عايش في تصريحاته لـ “البوصلة” إنّ المدينة الجديدة التي أعلنت عنها الحكومة هي جزء من رؤية التحديث الاقتصادي وتمّت الإشارة إليها بصورة غير مباشرة ربما عندما تحدثت هذه الرؤية عن وضع مدينة أردنية بين أفضل مائة مدينة في العالم وربما كان المعني بها المدينة الجديدة.

ولفت عايش إلى أنّ المجتمعات في كل العالم تشهد نموًا سكانيًا كبيرة، الأمر الذي يستدعي إقامة مدن وتجمعات سكانية جديدة واستصلاح الكثير من الأراضي، وإقامة مشاريع مختلفة عليها، وغير ذلك، مؤكدًا في الوقت ذاته أنّه من المفترض أن تلعب المدينة الجديدة هذا الدور.

إقرأ أيضا: الحوارات لـ”البوصلة”: “المدينة الذكية” قفزة حكومية في الهواء للهروب من فشلها

واستدرك بالقول: لكن في المقابل فإنّ إقامة أي بنية تحتية في أي مكان في العالم دون أن يكون هناك عائد يساوي ويزد عن الكلفة المترتبة عليها، فإنه يتحول إلى ديون يكاد يكون من الصعب الوفاء فيها.

ونوه إلى أنّ “هذا ما حصل في الأردن سابقًا عندما تمّ استخدام المديونية لإقامة مشاريع بنية تحتية دون أن يكون العائد منها مجديًا”.

نماذج فاشلة وغير فعّالة  

وقال عايش: على سبيل المثال في مصر الكلفة العالية للبنية التحتية راكمت مديونية هائلة على الحكومة المصرية وهي الأعلى عربيًا وتتجاوز (410) مليار دولار من المديونية الداخلية والخارجية.

ولفت إلى أنّ “إفلاس سيريلانكا كان أحد أهم أسبابه الإنفاق على بنية تحتية لم تؤدي إلى النتائج التي كان يتم الترويج سابقًا”، مشددًا على أنّ علينا في الأردن التفكير مسبقاً بـ “الطريقة التي نسدد بها تلك كلف الإنفاق على البنى التحتية التي نحتاجها بكل الأحوال”.   

الخبير الاقتصادي حسام عايش: النماذج السائدة لإقامة المدن الجديدة في العالم العربي قد لا تكون فعالة بالمعنى الاقتصادي

وعبر عن أسفه من أنّ “عمان كانت نموذجًا للفوضى في التنظيم الذي كان يتم حسب أصحاب الأراضي وليس حسب التنظيم المدني المعمول به في المدن المشابهة”، لافتًا إلى أنّ أي مدينة جديدة يجب أن تكون مدينة منتجة قادرة على تعويض تكاليف إنشائها.

وقال عايش: أنا أتساءل هل الحكومة يفترض بها أن تقيم مدينة جديدة، أم أنها يمكن أن تؤسس للبنية التحتية الأولية فيها وتضع الأنظمة والسياسات والإجراءات التي تسهل للناس الانتقال لهذه المدينة كلٌ  حسب رغبته.

وأكد أنّ النماذج السائدة لإقامة المدن الجديدة في العالم العربي قد لا تكون نماذج فعّالة بالمعنى الاقتصادي، وبالتالي على كل دولة أن تكيف نماذج إقامة المدن بما يتناسب مع حاجاتها وإمكانياتها ومستوى معيشة شعبها، والمشكلات التي تعاني منها مدنها القائمة.

وأضاف، نحن لم نحل مشكلة النقل في عمان حتى ننتقل إلى مدينة جديدة لا توجد فيها مشكلة نقل، ولم نحل مشكلة التلوث لننتقل لمدينة جديدة ليس فيها تلوث.

وأوضح عايش بالقول: أعني أنّ إقامة المدن الجديدة يجب أن يخدم عملية سكانية واقتصادية واجتماعية من جهة، وثانيًا على الحكومة أن تكون أقل تدخلا في الكلف المتعلقة بإقامة هذه المدن، وأن تسهل البنية وتطورها لإقامتها.

التفكير خارج صندوق إقامة المدن

واقترح عايش على الحكومة أن تفكر خارج صندوق إقامة مدن جديدة، مؤكدًا أنه يمكن إقامة عشرات المدن بطرق عديدة.

وأضاف أنه يمكن للحكومة أن تقتطع الأراضي الحكومية للشباب المقبلين على الزواج، وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة ويفكرون فيها لإقامة تجمعات إسكانية أو سكانية بمناطق تحددها الدولة، وكلٌ ينشئ مشروعه وسكنه وعقاره الذي يناسب احتياجاته وفق آلية أو طريقة معينة الإجراءات والسياسات والكودات المختلفة.

ولفت إلى أنّ ذلك يسمح بإنشاء الكثير من المدن التي تقلل الاكتظاظ في المدن الرئيسية عمان الزرقاء إربد وغيرها وتسمح باستثمار هذه الأراضي الشاسعة التي من الواضح أننا ليس لدينا أي عائد منها، منوهًا في الوقت ذاته إلى أنّ ذلك يوفر فرصة للأردني أن يبتكر الطريقة والآلية والوسيلة التي تمكنه من إقامة سكن له.

المدينة ورؤية التحديث

وقال عايش إن المدينة الجديدة المفترضة مقترنة برؤية التحديث الاقتصادي التي رصدت أكثر من  41.5 مليار دينار لمختلف مجالات التحديث، والحكومة ستتكلف من هذه المدينة ما مقداره (8 مليار دينار”، والباقي  سيموله القطاع الخاص والاستثمارات، وجزء من هذا التفكير إقامة مدينة جديدة.

إقرأ أيضًا: الشنّاق لـ “البوصلة”: تصريحات الحكومة حول “المدينة الجديدة” ملهاةٌ لا تليق بالأردن

واستدرك بالقول: لكن مع ذلك كل ما ستنفقه الحكومة أو هكذا تحدثت في رؤيتها للتحديث الاقتصادي ربما تأتي هذه المدينة لكي تستنزفه، ولذلك لن يبقى ما تنفقه على متطلبات الرؤية الأخرى.

وتابع بالقول: بجميع الأحوال الانتقال مرة واحدة من حل مشكلة المدن الموجودة حاليا والتي يمكن أن تصبح ذكية، ولدينا بنية تحتية رقمية يمكن أن توفر الذكاء الرقمي لكل المدن، وكل الشوارع والمنازل.

محاذير للمدينة الجديدة

وأكد الخبير الاقتصادي على ضرورة أن تتجنب المدينة الجديدة عددًا من المحاذير وعلى رأسها أن لا تكون الكلف الحكومية المدفوعة عالية بل تكون بأقل التكاليف لتستطيع توفير بنى تحتية لمدن أخرى لاحقًا، وأن لا تكون مدينة ببنية نخبوية، فينتقل لها من يملك المال ومن يمكنه الشراء فقط، فيما يصبح لدينا مدن درجة أولى ومدن درجة ثانية، وهذا يفترض أن لا يكون، لأننا لا نعلم ما التفكير الحكومي الذي يقود هذه العملية.

واضاف، بكل الأحوال، هذه البنى التحتية تخلق وتوفر فرص عمل لكنها تكون محدودة زمنيًا بوقت التنفيذ، وليس بنتائج مستمرة لأبعد من ذلك.

وشدد أنّ علينا الاستفادة من تجارب الدول الأخرى وبالذات مصر وغيرها من الدول في إقامة تجمعات سكانية ومدن جديدة، وعلينا أن نأخذ بالاعتبار أن الأمور تستدعي أن تكون كلفة هذه المدن محسوبة بطريقة لا تحمّلنا المزيد من الديون وأن نستثمر جزءًا مما يمكن أن ينفق على مدينة جديدة لتحسين مستويات المعيشة في المدن الحالية.

وأكد على ضرورة أن نكون باستمرار قادرين على خلق البيئة المناسبة لإيجاد مدن يتوالى الناس من تلقاء أنفسهم إقامة مشاريع سكنهم وعقاراتهم ومكاتبهم وصناعاتهم فيها، وأن تلعب الحكومة دور الميسر والمسهل والداعم لإقامة أشكال جديدة من المدن التي لا تكون مكتظة وتستفيد من إخفاقات المدن الحالية.

ولفت عايش في ختام حديثه لـ “البوصلة” إلى ضرورة تشجيع فئة الشباب وأن تسمح الحكومة باستثمار هذه الأراضي الشاسعة بشكل أفضل للشباب تحديدا حتى يكون قادرًا على تولي مشروعه بنفسه، وبدعم معين من خلال صناديق الحكومة وغيرها.

أسئلة مشروعة

من جانبه أثار الكاتب عبدالله المجالي عددًا من “الأسئلة المشروعة” في سياق الجدل المجتمعي، المستمر بين المشككين والمؤيدين.

وقال المجالي في مقالته بصحيفة السبيل: “إن أهم هذه الأسئلة هو تمويل المشروع؛ من الذي سيمول المشروع؟ لا أحد يعتقد أن الحكومة قادرة على تمويل مثل هكذا مشروع، فهل ستذهب للاقتراض؟ وممن؟ هل ستميل على صندوق الضمان الاجتماعي كما مالت عليه في مشروع الباص السريع بين عمان والزرقاء؟.

ولفت إلى أنّ “الأسئلة هنا متشعبة، والتخوف هو من مصير العاصمة الإدارية في مصر، خصوصا أن تصريحات صدرت من رئيس الوزراء تشيد بالتجربة المصرية، لكن تلك التجربة جرّت وبالا على الاقتصاد المصري، وها هو الجنيه يهبط هبوطا حرا، والشعب المصري يعاني من التضخم وارتفاع الأسعار، وذلك بالرغم من التصريحات الرسمية للحكومة المصرية من أن تمويل المشروع ليس من خزينة الدولة!”

تجاهل استشارة الخبراء

من جانبه قال أستاذ العمارة والتخطيط الحضري مراد الكلالدة في حديثه لبرنامج “استديو التحليل” عبر إذاعة حياة اف ام، أنّ كل المدن الأردنية بحاجة إلى مدن جديدة، لتعزيز التنمية فيها، لكن الحكومة دخلت مرحلة المخططات التفصيلية المكلفة جدا، دون استشارة الخبراء.

بدوره قال رئيس جمعية مستثمري قطاع الإسكان كمال العواملة إنَّ مشروع المدينة الجديدة يحتاج إلى تأنٍ ودراسات إضافية معمقة.

وأشار إلى أن المدن التي تم إنشاؤها سابقا، كمدينة خادم الحرمين والمجد وغيرها، لم تحقق النجاح المطلوب.

تفاصيل المدينة الجديدة

كشفت الحكومة، الثلاثاء الماضي، عن خريطة موقع مشروع المدينة الجديدة.

ونشرت الحكومة خريطة توضيحية لموقع المدينة الجديدة، الذي يبعد نحو 40 كم عن وسط عمان، و27 كم عن مطار الملكة علياء الدولي و31 كم عن مدينة الزرقاء.

ويُعتبر موقع مشروع المدينة الجديدة، جزءاً من أراضي البادية الأردنيَة، ويقع على طريقين دوليين يربطان الأردن مع المملكة العربيَة السَعوديَة والجمهوريَة العراقيَة، وتبلغ مساحتها الإجماليَة المقدَرة بعد الانتهاء منها قرابة (277) ألف دونم.

ووفقاً للدِراسة المقدَمة، سيُقام مشروع المدينة الجديدة على عدَة مراحل، تبدأ المرحلة الأولى منه عام 2025 وتنتهي عام 2033، فيما تنتهي المرحلة الأخيرة منه عام 2050.

وتستهدف المرحلة الأولى إقامة مدينة ذكيَة عصريَة، تعتمد بنسبة عالية على الطَاقة النَظيفة، وتستوعب قرابة (157) ألف نسمة، فيما يُقدَر أن تستوعب مليون نسمة عند اكتمال جميع مراحلها.

كما تضمُ المرحلة الأولى من المشروع الأبنية السَكنيَة والسَاحات العامَة، بالإضافة إلى نقل وزارات ومؤسَسات عامَة إليها، ما عدا المؤسَسات السياسيَة مثل: رئاسة الوزراء والبرلمان والمجلس القضائي.

ويستهدف المشروع كذلك إنشاء مدينة حديثة وصديقة للبيئة، بأبعاد اقتصاديَة واجتماعيَة استثماريَة وتنمويَة، ويرمي إلى التَخفيف من الضَغط على الخدمات والنَقل والبنى التحتيَة في العاصمة عمَان ومدينة الزَرقاء بشكل أساسي، وتصل كلفة إنشائها في جميع مراحلها إلى ما يزيد على ثمانية مليارات دينار، وستسهم الحكومة في إنشاء البنى التحتيَة والخدمات الأساسيَة فيها.

كما يستهدف المشروع إنشاء شبكة مواصلات عصريَة وحديثة بين المدينة المقترحة وكلٍ من العاصمة عمَان ومطار الملكة علياء الدَولي والميناء البرِي في الماضونة ومدينة الزَرقاء.

(البوصلة)

Share on whatsapp
Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on email
Share on print

رابط مختصر للمادة:

اقرأ أيضاً

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram
Share on email
Email
Share on print
Print

رابط مختصر للمادة: