أسامة أبو ارشيد
Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on email
Email
Share on telegram
Telegram

رابط مختصر للمادة:

الموت في سبيل الحرية

أسامة أبو ارشيد
Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on email
Share on telegram

رابط مختصر للمادة:

لم يكن الشهيد الشيخ خضر عدنان يائساً من الحياة طالباً للموت انتحارياً، بل كان متمسّكاً بها، ولكن حياة عزٍّ وكرامة بعيداً عن أغلال الاحتلال الصهيوني وقيوده. كان في سنيِّ شبابه وله من الأولاد تسعة، وهو مثل أي إنسان كان يتطلع قدماً، يجدُّ ويكدُّ من أجل مستقبل أفضل لأطفاله. ميزة خضر أنه كان صاحب قضية وَهَمٍّ أكبر من ذاته، ولم يكن تمرّده على ظلم الاعتقالات الصهيونية وإضراباته المتكرّرة عن الطعام في زنازين الاحتلال مرتبطاً بحرّيته فحسب، وإنما كان جهداً في سياق تعزيز لبنات حرية شعبه، بما في ذلك لذرّيته وأهله. لم يكن أيٌّ من هذه المعاني غائباً عن خضر وهو يستهل وصيته بالقول: “الحمد لله رب العالمين أن وفقني للإضراب عن الطعام للحرية”. هذه فلسفة عميقة لها جذور ضاربة في التاريخ، وعبر الثقافات والأديان المختلفة، كما أنها تحظى باحترام وتقدير واسعيْن بين الناس. الموت هنا من صور المقاومة ضد عدو معتد، وهو أحد سبل الحرية الأرحب أفقاً والأوسع إطاراً. إنه كما قالت الناشطة النسائية البريطانية إيميلين بانكهورست، عام 1913: “الحياة البشرية بالنسبة لنا مقدّسة، لكننا نقول إذا كان يجب التضحية بحياة ما فهي حياتنا. لن نفعل ذلك بأنفسنا، لكننا سنضع العدو في المكان الذي سيتعين عليه الاختيار بين منحنا الحرية أو منحنا الموت”. وكما يقول الفيلسوف البريطاني بن دوبريه: “لم تكن الحرية موجودة يوماً من دون قيود أو إكراه خارجي”.

رحل خضر في الثاني من شهر مايو/ أيار الجاري بعد خوضه إضراباً عن الطعام 87 يوماً احتجاجاً على اعتقاله من سلطات الاحتلال الصهيوني “إدارياً” من دون تهم ولا أدلة. قبل ذلك خاض خضر عدة إضرابات عن الطعام معزّزاً مقاومة “الأمعاء الخاوية” ضد جبروت الاحتلال. خاض في عام 2012 إضراباً عن الطعام 66 يوماً كاسراً إرادة إسرائيل، التي اضطرّت للإفراج عنه. وعاد وكرّر الأمر، عام 2015، وفرض على الدولة العبرية إطلاق سراحه بعد 52 يوماً من الإضراب عن الطعام. ثمَّ في 2018، مدة 59 يوماً، و25 يوماً عام 2021، وفي المرّتين انتصرت إرادته وانكسرت إرادة الاحتلال. وحتى إضرابه أخيرا، كان ضمن المنظور الفلسفي السابق الذي استهللنا به انتصاراً له وهزيمة للاحتلال. كان خضر في كل مرّة يطلب الحياة والحرية، لا الموت والبؤس، كان يريد صناعة أملٍ يحاول العدو الصهيوني أن يحظره عليه وعلى الشعب الفلسطيني. ولكن، ها هي إرادة الحرية تعلو، حتى ولو عبر الموت، على إرادة الكبت والترويع والإرهاب.

تحتفي الديانات والثقافات المختلفة بالتضحية موتاً في سبيل كرامة الشعوب والأوطان والأهل والمستضعفين. يؤسّس اليهود لبطولاتهم منذ القرن الأول للميلاد بثورتهم على الحكم الروماني بهدف استعادة دولة يهودية مستقلة، وهم ما زالوا يمجّدون أبطال تلك الثورات وشهداءها رغم أنه انتهى بهم المطاف سحقاً. وحتى اليوم يتغنّون ببطولات ما يصفونها مقاومة بعض يهود أوروبا الشرقية الغزو الألماني النازي، وهم قد أنتجوا أفلاماً كثيرة، كفيلم Defiance (التحدّي)، عام 2008، عن دور ينسبونه لبعض يهود بولندا في تجنيد ثورة يهودية وقيادتها ضد الاحتلال النازي في بيلاروسيا خلال الحرب العالمية الثانية. ينسحب الأمر نفسه على تمجيدهم جنود الاحتلال الصهيوني الذين سقطوا في المعارك مع الفلسطينيين والعرب، خصوصاً خلال ما يسمّونها “حرب الاستقلال” في أربعينيات القرن الماضي، أما المقاومة الفلسطينية لبطشهم وجرائمهم واحتلالهم فـ”إرهاب”!

تحتفي المسيحية أيضاً بالتضحية، وهي تبدأ مع ما يعتقده المسيحيون أن المسيح عليه السلام ضحّى بنفسه فداء وخلاصاً للبشرية من ذنوبها. وعلى الخطى نفسها سار الأسقف بوليكاربوس، الذي ينظر المسيحيون إلى موته من أشكال المقاومة، فكان من نتائج قتل الروم له، في القرن الثاني الميلادي، تسارع انتشار المسيحية في الإمبراطورية الرومانية. ثمَّ جاء الإسلام الذي عزّز مفاهيم الفداء والتضحية في سبيل هدفٍ أسمى، فأصحاب الأخدود الذين قتلوا حرقاً بسبب اتّباعهم عقيدة التوحيد التي جاء بها المسيح، بطلها شاب صغير تسبّب مقتله في إسلام جميع سكان المدينة. وفي الحديث الذي يرويه مسلم أنه عندما خيّر الناس بين الارتداد والحفاظ على حياتهم، أو البقاء على الدين الجديد وإلقائهم في النار تردّدت امرأة معها صبي صغير، فقال لها الغلام: “يا أمه، اصبري فإنك على الحق”. والشواهد هنا كثيرة من حياة الرسول الكريم عليه السلام والصحابة ومن تبعهم.

في التاريخ الأميركي، نجد تمجيداً كبيراً للحرية، حتى ولو كان الموت هو السبيل إليها. يضحّي بعضهم لتحيا الغالبية. ولعل من أهم الشعارات المؤسسة للوعي الأميركي تلك العبارة التي أطلقها باتريك هنري، أحد “الآباء المؤسّسين”، وهو يحرّض على الثورة المسلحة ضد الوجود العسكري البريطاني، قائلاً: “أعطني الحرية أو أعطني الموت”. وسياق العبارة لا يقلّ أهمية، وهو تأسيس فلسفي ينسحب على مقاومة الشعب الفلسطيني الاحتلال الصهيوني، والتي تصنّفها الولايات المتحدة بنفاق ظاهر “إرهاباً”. أما السياق فقد جاء ضمن منابذة هنري في مؤتمر في ولاية فرجينيا، عام 1775، بشأن ضرورة المقاومة المسلّحة ضد البريطانيين، وهو الأمر الذي كان يرفضه “المعتدلون” بين “الثوار الأميركيين”، لكن النصر كان حليفه. قال هنري: “إذا كنّا غير موفقين في تمنّينا لها (الثورة المسلحة)، فقد فات الأوان للتقاعس عنها. التراجع يعني الخضوع والعبودية. السلاسل التي تقيدنا مزيفة. صخبها يسمع في سهول بوسطن. الحرب حتمية ولتأت. أكرّرها، دعها تأتي. من العبث التقليل من خطورة الحدث. قد يجأر السادة، السلام، السلام، ولكن لا يوجد هناك سلام. لقد بدأت الحرب فعلاً. العاصفة القادمة التي تجتاح من الشمال ستجلب لآذاننا صليل الأسلحة المدوّية. إخواننا بالفعل في الميدان. لماذا نقف هنا مكتوفي الأيدي؟ ما الذي يرغب به السادة؟ ماذا سيكون لديهم؟ هل الحياة عزيزة جداً، أم السلام حلو جداً، بحيث يتم شراؤه بثمن السلاسل والعبودية؟ حاشا لله القدير. لا أعرف المسار الذي قد يتّخذه الآخرون؛ أما أنا فأعطني الحرية أو أعطني الموت”. ويعمق المناضل الحقوقي الأميركي الأسود المسلم مالكوم إكس هذا المفهوم في تصريح له عام 1964، إذ قال: “إذا ما رجوت رجلاً آخر أن يعطيك حرّيتك، فإنك لن تنعم بالحرية أبداً. الحرية شيءٌ عليك أن تحقّقه لنفسك. وحتى يفْهِمَ السود البيض أننا مستعدّون حقاً لدفع الثمن الضروري للحرية، فإن شعبنا سيكون دائماً من مواطني الدرجة الثانية، أو ما تسمّونه بعبيد القرن العشرين. ثمن الحرية هو الموت”.

رحم الله خضر عدنان. مثل أي واحد فينا، كان يريد الحياة ويطلبها ويسعى إليها، ولكن أبوابها أوصدت في وجهه، وهو لم يقبل أن يعيشها ذليلاً، أو على الأقل لم يُرد هذا المصير لأولاده وشعبه، فكان أن قدّم روحه فداء لقضية وشعب وأمة، لعلها توقظ فيهم جذوة الحرية والكرامة، وهي متحقّقة لا محالة، طال الزمن أم قصر.

(العربي الجديد)

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on email
Share on telegram

رابط مختصر للمادة:

Related Posts