أسامة أبو ارشيد
Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on email
Email
Share on telegram
Telegram

رابط مختصر للمادة:

رقعة الشطرنج الأوكرانية

أسامة أبو ارشيد
Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on email
Share on telegram

رابط مختصر للمادة:

يثير التوتر الأميركي – الروسي على خلفية حشد موسكو عشرات الآلاف من جنودها على الحدود مع أوكرانيا، وتحذير الاستخبارات الأميركية من أن ذلك قد يكون مقدّمة لغزو عسكري واسع، مفارقاتٍ كثيرة. بداية، الحديث هنا عن دولتين لا تحترمان القانون الدولي أصلاً، وتاريخهما حافل بضرب بنوده عرض الحائط والدوْس عليه كلما تعارض مع مصالحهما. ومع ذلك، فإن كلاً منهما، والصين معهما أيضاً، دائماً ما يتراشقون بتهم خرق القانون الدولي وعدم احترام سيادة الدول. تفعلها الولايات المتحدة اليوم مع روسيا في أوكرانيا، ومع الصين في تايوان وبحر الصين الجنوبي، في حين أن واشنطن لم تتردّد يوماً في استخدام قوتها العسكرية الساحقة في إخضاع دول ذات سيادة من دون تفويض دولي، تماماً كما جرى في فيتنام وبنما والعراق، والقائمة تطول هنا.

النكتة، عندما تتهم الولايات المتحدة روسيا والصين بمعاداة الديمقراطية، ورفض تبنّي أي دولة في محيطيهما الجيوستراتيجي لها، بينما هي نفسها تدعم أنظمة ديكتاتورية في أميركا الجنوبية وفي الشرق الأوسط وأفريقيا. وفي حين تحذّر واشنطن موسكو من مغبة الاعتداء على سيادة أوكرانيا، فإنها تتناسى أنها هي من يُمَكِّنُ إسرائيل، ويوفر لها الحماية الدولية في الاعتداء على الشعب الفلسطيني وحقوقه. وعندما يُعَيِّرُ الأميركيون الروس، محقّين، جرّاء دعمهم نظام بشار الأسد في سورية، فإنهم لا يحدّثونك عن بقية القصة، وهي أنهم هم من خنق الثورة السورية ومنع عنها السلاح اللازم، حتى ظهر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجاء الروس، وقبلهم طبعاً الإيرانيون ومليشياتهم. بمعنى أن الدول الصغيرة والضعيفة في عرف القوى العظمى ما هي إلا أدواتٌ يتراشقون بها، يوظّفونها في استنزاف بعضهم بعضاً، أما حقوق الوكلاء الهامشيين ومصالحهم ودماؤهم فهي آخر ما يشغلهم.

لا شك أن روسيا معتدية في المسألة الأوكرانية، وهي كانت قد احتلت منها شبه جزيرة القرم عام 2014 وضمّتها إليها، كما أنها تدعم مليشيات انفصالية في شرق البلاد. لكن السياق الكامل للقصة فيه أبعاد وتفاصيل أخرى تجعل من أوكرانيا أداة أميركية غربية في محاولات حصار روسيا وتهديد أمنها القومي. في ديسمبر/ كانون الأول 2013 تفجّرت احتجاجاتٌ شعبيةٌ واسعةٌ في أوكرانيا ضد رفض حكومة الرئيس، حينئذ، فيكتور يانوكوفيتش، توقيع اتفاقية للتجارة الحرّة والشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وتفضيلها عوضاً عن ذلك الدخول ضمن الاتحاد الجمركي الروسي. انتهت تلك الاحتجاجات بسقوط يانوكوفيتش وفراره إلى روسيا التي اعتبرت أنه تعرّض لخديعةٍ غربيةٍ لتحجيم نفوذها هناك. وفي فبراير/ شباط 2014، أمر الرئيس فلاديمير بوتين بالتدخل عسكرياً في شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا بذريعة حماية الروس المقيمين هناك لـ”أسباب إنسانية” بعد وقوع “انقلابٍ” على “الرئيس الشرعي” يانوكوفيتش، وبهذا تعمّقت الخلافات بين الولايات المتحدة وأوروبا من ناحية وروسيا من ناحية أخرى.

لم تفلح، حينها، التحذيرات والعقوبات الأميركية – الأوروبية في ردع بوتين، وهو ما زال يرفض التنازل عن السيادة على القرم. يتحدّث الأميركيون والأوروبيون عن ضرورة احترام سيادة أوكرانيا وإرادتها الشعبية، إلا أن الأمر بالنسبة للروس يتعلق بخطّ أحمر غير قابل للتفاوض مهما كانت التبعات، مفاده أنهم لن يقبلوا أبداً أن تنضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ولا إلى الاتحاد الأوروبي. موضوعياً، تعدّ الهواجس الروسية مشروعة، فتمدّد “الناتو” إلى حدودها الغربية يمثل تهديداً جيوستراتيجيا مباشرا لها، خصوصاً إذا ما تم وضع صواريخ استراتيجية على أرضها موجهة نحوها. ومعلوم أن موسكو ما زالت غاضبة من انضمام جمهوريات سابقة في الاتحاد السوفييتي، مثل دول البلطيق الثلاث، أستونيا، لتوانيا، ولاتظفيا، فضلاً عن دول في أوروبا الشرقية والوسطى كانت تدور في فلكها في الماضي، كبولندا وهنغاريا ورومانيا، إلى “الناتو” والاتحاد الأوروبي. عملياً، كان هذا نوعاً من الحصار الذي فرضه الغرب عليها. ولكن مع استعادة روسيا بعض توازنها تحت قيادة بوتين، فإنها منعت جورجيا بالقوة، عام 2008، والآن أوكرانيا، منذ عام 2014، من فعل الشيء ذاته. علاوة على ذلك، تنظر موسكو إلى توسع الاتحاد الأوروبي شرقاً باتجاه حدودها تهديداً لرؤيتها للفضاء الاقتصادي الذي أقامته بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والمعروف باسم الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي، ويشمل بالإضافة إلى روسيا دولاً في شرق أوروبا وغرب آسيا ووسطها.

يدرك الأميركيون والأوروبيون ذلك كله، ويدركون عمق الهواجس الروسية، ودرجة تصميم الكرملين على التصدّي لأي محاولاتٍ لسحب أوكرانيا إلى معسكرهم. ومن ثمَّ، فإنه لا الأميركيون ولا الأوروبيون في وارد أن يهبوا لنجدة أوكرانيا عسكرياً في حال وقوع غزو روسي، ذلك أن هذا قد يقود إلى حربٍ نووية. هم يقولون ذلك بكل صراحة، وقد أعاد الرئيس جو بايدن تأكيده، وكذلك الأمين العام لـ”الناتو”. أقصى ما تهدّد به الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية صارمة بحق موسكو تقود إلى عزلتها عالمياً، وهو أمرٌ تخشاه هذه الأخيرة، في ظل نفوذ واشنطن في النظام المالي الدولي، وقدرة أوروبا على إلحاق أذى كبير بروسيا اقتصادياً، خصوصاً في ما يتعلق بواردات الغاز، وتحديداً لألمانيا هنا. أيضاً، تهدّد الولايات المتحدة بتقديم أسلحة متطوّرة ومميتة لأوكرانيا، بحيث تجعل أي مغامرة عسكرية روسية باهظة الثمن. ومع ذلك، يجمع كل الخبراء العسكريين الأميركيين، على أنه لا يوجد شيءٌ يمكن أن تقدّمه واشنطن عسكرياً لكييف قادر على تمكينها من صدّ اجتياح عسكري روسي، إذا اضطرت موسكو إليه.

إذا كان هذا هو الحال، فلماذا تصرّ القيادة الأوكرانية الرعناء على استفزاز موسكو في موضوعي الانضمام لحلف لناتو والاتحاد الأوروبي ولعب دور الأداة في صراع جيوسياسي بين قوى عظمى؟ هم يعلمون أن هذا خطّ أحمر روسي لن يتسامحوا مع تجاوزه مهما كانت التداعيات. كما أنهم يعلمون أنه لا الأميركيون ولا الأوروبيون سيغامرون بحربٍ مباشرةٍ مع روسيا في فنائها الخلفي. كل ما يهم الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، هو حصار روسيا واستنزافها وإضعافها، ولو كان ذلك بالدم الأوكراني. لو كان الغرب يقيم وزناً لحقوق الإنسان، عالمياً، لما ترك الشعب السوري يُباد بدعم روسي، ولو كان يعتدّ بمفهوم سيادة الدول لما مارس العدوان على كثير منها، ولو كان يؤمن بالديمقراطية، خارج حدوده، لما قدّم ترياق الحياة لأنظمة قمعية ديكتاتورية.

ببساطة، أوكرانيا مجرّد رقعة شطرنج يتنافس فيها الخصوم بدماء شعبها واستقرارها ومستقبلها، وهي عملياً لا تمتّ للأمن القومي الأميركي بصلة، اللهم إلا استنزاف روسيا وحصارها وإبقاءها مشغولة، من دون أن يعني ذلك تبرئة الأخيرة، فهي دولةٌ عدوانيةٌ لا تقل إمبريالية عن نظرائها الغربيين والصين.

(العربي الجديد)

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on email
Share on telegram

رابط مختصر للمادة:

Related Posts