من الأردن إلى البصرة!!

من الأردن إلى البصرة!!

من كتاب محطات وعبر للدكتور عبدالحميد القضاة رحمه الله

لقراءة الكتاب :https://bit.ly/3lZJql9

للاستماع للكتاب: https://bit.ly/2Ze5TlK

” كانت رغبتي دراسة الهندسة، وفي سبيل ذلك تقدمت لجامعات عدة، وأمضيت عام 1968سعياً وراء ذلك، غير أني لم أُوفق في تحصيل القبول، لا أذكر ما الذي جعلني أفكر في باكستان! فتوجهت إليها نهاية عام 1968م عن طريق العراق، ثم بحراً في باخرة معدة لنقل البضائع إلى كراتشي، في رحلة بحرية مدتها ثمانية أيام بلياليها، فكانت بالنسبة لي تجربة فريدة من نوعها خلّفت ذكريات خاصة لا تُنسى منها:

أنني سافرت براً بالحافلة من إربد قاصداً البصرة في العراق، وكانت المرة الأولى التي أغادر فيها الأردن، وكنت أحمل معي متاعاً ثقيلاً في حقيبة كبيرة، وكنت أعد هذا السفر تحدياً لي، فهل أستطيع الوصول إلى مُرادي مع الحفاظ على أمتعتي ونقودي؟ ولذلك كانت درجة التيقظ والحرص عالية جدًا.

وللمزيد من التعب والحيرة تبين لي في منتصف الطريق أن الحافلة التي أركبها متوجهة من إربد إلى الكويت، مروراً ببغداد ثم البصرة بعدها، ولقلة الخبرة والتجربة، تبين لي فيما بعد أن هذه الحافلة لا تدخل مدينة البصرة، التي كنت أقصدها، بل تمر قريباً منها؛ لذلك طُلب إليّ النزول من الحافلة على المثلث الذي يربط طريق بغداد – الكويت الرئيسي بمدينة البصرة.

وفعلاً نزلت مع حقيبتي التي تكبرني حجماً ووزناً، وكانت الحيرة تملؤني، واللعنات الصامتة على سائق الحافلة – الذي لم يوصلني إلى البصرة – تملأ صدري، كان الوقت قبل الغروب ولم أكن أدرك في حينها أين أنا ولا الإتجاهات الأربعة ، لولا بقايا قطعة من حديد صدئة، بعض ما كتب عليها قد أكل عليه الدهر وشرب، تشير إلى مدينة البصرة.

كانت لحظات رهيبة بالنسبة لي استذكرت فيها والدتي، ودعاءها الدائم لي ولإخواني بالستر والتوفيق، وقلت في نفسي يا الله، ولم يقطع علي شرودي وحبل أفكاري إلا وقوف سيارة خاصة بيضاء، من نوع بيجو أمامي, قال لي سائقها: أين تقصد؟، قلت: البصرة، فقال: تفضل، كدت أطير من الفرح، وأنا بين مصدق ومكذب، ساعدني الرجل على حمل الحقيبة ووضعها في السيارة، وركبت معه وانطلقنا إلى البصرة، ولكن في واقع الحال إلى جهة مجهولة عمليا بالنسبة لي، فلذلك كانت تنتابني وساوس وأوهام لا أدري مصدرها، وكانت تنقطع هذه الأفكار بين الفينة والأخرى؛ لأرد على أسئلة السائق، من أين أنت؟ وأين تقصد؟ وما اسمك؟ وكان لا يزيد على الترحيب بعد كل جواب.

من الأمور التي كانت تشغل بالي في الطريق، هل عليَّ أن أعطيه أجراً على جميل صنيعه أم لا؟، هل هو فاعل خير أم سائق أجرة؟، ورغم أن الأميال التي قطعناها كانت قليلة إلا أنني شعرت أنها طويلة جداً، فلمّا بدأ عمران البصرة يظهر في الأفق بدأت أرتاح شيئاً فشيئاً.

لملمت ما بقي لدي من شجاعة وسألته : من أين أنت؟، فقال: من الكويت وأقصد زيارة البصرة، وكان هذا في صيف عام 1968.

دخلنا البصرة، وعرف أنني أريد فندقاً أسكن فيه حتى موعد الباخرة، فأرشدني إلى فندق، وحمل معي حقيبتي، وقابل المسؤول وأوصاه بي خيراً، ثم أراد الإنصراف فرجوته أن أقدم له أجر صنيعه الكريم، فابتسم، وقال سأزورك غداً إن شاء الله في الفندق، ونتفاهم، ثم غادر وتركني في حيرة جديدة، على ماذا نتفاهم؟!.

دخلت غرفتي، وتنفست الصعداء، وحمدت الله أن وصلت سالماً بحقيبتي ونقودي لم يمسسهما سوء، ودخلت في نوم عميق، لم أصح منه إلا في ساعة متأخرة لأصلي المغرب والعشاء جمع تأخير.

جاء الرجل في الصباح واطمأن علي، وتجاذبنا أطراف الحديث، عرف أنني متوجه للدراسة في باكستان عن طريق البحر مع شركة “كريماكنزي” التي تنطلق من البصرة، وتحمل مع البضائع بعض الركاب، الذين يقصدونها؛ لرخص أجورها، وكنت واحداً منهم.

كنت أستجمع شجاعتي لشدة حيائي منه للطفه ووقاره عندما كنت أريد أن أسأله، فقلت له : بالأمس أردت أن أقدم لك الأجرة على صنيعك الجميل فأجلت ذلك إلى اليوم، فضحك، وقال : ذات يوم كنت مع زوجتي وبناتي في سيارتي على طريق بغداد – الكويت، وكان الوقت ليلاَ، وقدر الله أن تعطلت السيارة وأصبحنا في ضيق شديد، وكنت أجتهد بالطلب من السيارات التي تمر أن تساعدنا فلا مجيب، وبعد انتظار طويل وحيرة أطول، إذ بسيارة خاصة صغيرة، يستقلها مجموعة من الشباب الأردنيين، تستجيب للإشارة وتقف أمامي، وبعد أن عرفوا الأمر، قاموا بإصلاح سيارتي، ثم تابعنا المسير باتجاه الكويت، وكان هؤلاء الشباب يسيرون خلفنا، زيادة في الاطمئنان علينا، حتى وصلنا الكويت، شكرتهم شكراً جزيلاً، وحاولت مكافأتهم، فرفضوا، وقالوا : هذا أقل الواجب.

ومنذ ذلك الحين قطعت على نفسي عهداً أن أقدم ما أستطيع من مساعدة لمن أعرف ولمن لا أعرف، علّي أسدد بعض جميل هؤلاء الشباب الكرام، وهذا أقل الواجب.

وما زالت كلماته ـ جزاه الله خيرا ًـ ترن في أذني إذ أردفَ القول ناصحاً :” أنت في بداية حياتك، وأنت الآن بعيدٌ عن رقابة والديك، فتذكر أن الله يراك في كل مكان، أنصحك أن تلتزم شرعه، واختر الصحبة الصالحة، والزم دراستك واجتهد ما وسعك الاجتهاد واستفد من وقتك، فالوقت هو الحياه، وعُد لوالديك بعلم نافع، والتزم بشرع الله، تكسب المزيد من رضاهم، فرضاهم من رضا الله “.

كلمات من نور، ساقها الله على لسان هذا الرجل العظيم المجهول بالنسبة لي، فكانت مطابقة تماما لكلمات أقرب الناس لي، وأكثرهم حرصاً على مصلحتي وحباً لي، كم أتمنى لو عرفته أكثر لإكرامه، ولكن ما ضره أني لم أعرفه؟!، مادام علاّم الغيوب لا تخفى عليه خافية، وصدق الشاعر الحطيئة حين قال:

من يفعل الخيرَ لا يُعدم جوازيهُ لا يذهبُ العُرفُ بين اللهِ والناسِ

فجزاه الله عني خير الجزاء، وأكرمه حياً وميتاً على جميل صنيعه وحُسن خلقه، فلست أملك له غير الدعاء، والاقتداء بصنيعه، فعمل الخير مع من تعرف ومن لا تعرف، ورضا الوالدين وطاعتهما من موجبات رحمة الله وتوفيقه.”

(البوصلة)

Share on whatsapp
Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on email
Share on print

رابط مختصر للمادة:

اقرأ أيضاً

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram
Share on email
Email
Share on print
Print

رابط مختصر للمادة: